( حسن الخلق وأهميته لطالب العلم )
لسماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله
إن الحمد لله ، نحمده ، ونستعينه ، ونستغفره ، ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، بعثه الله تعالى بالهدى ، ودين الحق ليظهره على الدين كله ، بعثه الله تعالى بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا ، وداعيا الى الله بإذنه وسراجا منيرا ، فبلغ الرسالة ، وأدى الأمانة ، ونصح الأمة ، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين ، ووفق الله من شاء من عباده فاستجاب لدعوته ، واهتدى بهديه ، وخذل الله بحكمته من شاء من عباده فاستكبر عن طاعته ، وكذب خبره ، وعاند أمره ، فباء بالخسران والضلال البعيد.
أيها الإخوة ، يطيب لي أن أتحدث إليكم عن الخُلق الحسن ، والخُلق كما يقول أهل العلم : هو صورة الإنسان الباطنة ، لأن للإنسان صورتين : صورة ظاهرة ، وهي خلقته التي جعل الله البدن عليها.
وكما نعلم جميعا أن هذه الصورة الظاهرة منها ما هو جميل حسن ، ومنها ما هو قبيح سيئ ، ومنها ما بين ذلك .
وصورة باطنة منها صورة حسنة ومنها صورة سيئة ، ومنها ما بين ذلك ، وهذا ما يعبر عنه بالخُلق .
فالخلق إذن هو :
(( الصورة الباطنة التي طُبع الإنسان عليها )) ،
وكما يكون الخلق طبيعة فإنه يكون كسبا ، بمعنى أن الإنسان كما يكون مطبوعا على الخلق الحسن الجميل قد يحصل على الخلق عن طريق الكسب والمرونة – ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم للأشج بن قيس :
[ إن فيك لخُلُقين يحبهما الله ، الحلم والأناة ، قال : يا رسول الله أهما خلقان تخلقت بهما أم جبلني الله عليهما ، قال : بل جبلكم الله عليهما ] أخرجه مسلم.
فهذا دليل على أن الأخلاق الفاضلة تكون طبعا وتكون تطبعا ، ولكن الطبع بلا شك أحسن من التطبع ، لأن الخلق إذا كان طبيعيا صار سجية للإنسان وطبيعة له لا يحتاج في ممارسته الى التكلف ، ولا يحتاج في ممارسته الى التصنع ، ولكن هذا فضل الله يؤتيه من يشاء ، ومن حرم هذا "أي من حرم الخلق على سبيل الطبع فإنه يمكنه أن يناله على سبيل التطبع وذلك بالمرونة والممارسة كما سنذكره إن شاء الله تعالى.
وكثير من الناس يذهب ظنه الى ان حسن الخلق لا يكون إلا في معاملة الخَلق ، دون معاملة الخالق . ولكن هذا فهم قاصر فإن حسن الخلق كما يكون في المعاملة مع الخلق يكون في معاملة الخالق. فموضوع حسن الخلق إذن معاملة الخالق جل وعلا . ومعاملة الخلق أيضا 0
فما هو حسن الخلق في معاملة الخالق ؟
حسن الخلق في معاملة الخالق يجمع ثلاثة أمور :
1_ تلقي اخبار الله تعالى بالتصديق .
2_ تلقي احكامه بالتنفيذ والتطبيق .
3_ تلقي اقداره بالصبروالرضى .
فهذه ثلاثة اشياء عليها مدار حسن الخلق مع الله عز وجل .
اولا: تلقي أخباره بالتصديق :
بحيث لا يقع عند الانسان شك او تردد في تصديق خبر الله تعالى لان خبرالله سبحانه وتعالى صادر عن علم وهو اصدق القائلين كما قال تعالى عن نفسه :
{ ومن أصدق من الله حديثا } ( النساء اية :87) .
ولازم تصديق أخبار الله ان يكون الانسان واثقا بها مدافعا عنها مجاهدا بها بحيث لايدخله شك او تشكيك في اخبار الله تعالى وأخبار رسوله_ صلى الله عليه وسلم_ واذا تخلق بهذا الخلق امكنه ان يدفع كل شبهة يوردها المغرضون على أخبار رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ سواء أكانوا من المسلمين الذين ابتدعوا في دين الله ما ليس منه ام كانوا من غير المسلمين الذين يلقون الشبهة في قلوب المسلمين ولنضرب لذلك مثلا : ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ان النبي _صلى الله عليه وسلم _ قال :
"اذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه فان في إحدى جناحيه داء والأخرى شفاء "
هذا خبر رسول الله_ صلى الله عليه وسلم . وهو صلى الله عليه وسلم في أمور الغيب لا ينطق عن الهوى الا بما أوحى الله إليه ، لانه بشر والبشر لا يعلم الغيب بل قد قال الله له :
{ قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي }( الأنعام آيه :50)
هذا الخبر يجب علينا أن نقابله بحسن خلق وحسن الخلق نحو هذا الخبر أن نتلقى هذا الخبر بالقبول وأن نجزم بان ما قال النبي _صلى الله عليه وسلم _في هذا الحديث فهو حق وصدق وإن اعترض عليه من يعترض . ونعلم علم اليقين أن ما خالف ماصح عن رسول الله _صلى الله عليه وسلم _فإنه باطل لأن الله تعالى يقول :
{ فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون }(يونس آية:32)
ومثال آخر :
من أخبار يوم القيامة .أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الشمس تدنو من الخلائق يوم القيامة بقدر ميل . سواء كان ميل المكحلة أو ميل المسافة . هذه المسافة بين الشمس ورؤوس الخلائق قليلة . ومع هذا فان الناس لا يحترقون بحرها مع أن الشمس لو تدنو الان في الدنيا مقدار أنملة لاحترقت الدنيا،فقد يقول قائل كيف تدنو من رؤوس الخلائق يوم القيامة بهذه المسافة ثم يبقى الناس لحظة؟ فما هو حسن الخلق نحو هذا الحديث ؟ حسن الخلق نحو هذا الحديث ان نقبله ونصدق به وان لايكون في صدورنا حرج منه ولاضيق ولاتردد وأن نعلم أن ما اخبر به الرسول _صلى الله عليه وسلم- في هذا فهو حق ولا يمكن ان نقيس احوال الاخرة على احوال الدنيا لوجود الفارق العظيم فإذا كان كذلك فإن المؤمن يقبل مثل هذا الخبر بانشراح وطمأنينة ويتسع فهمه له ، هذا في الأخبار.
ثانيا: تلقي احكامه بالتنفيذ والتطبيق :
إن حسن الخلق في معاملة الله بالنسبة للأحكام أن يتلقاها الانسان بالقبول والتنفيذ والتطبيق فلا يرد شيئا من أحكام الله. فإذا رد شيئا من أحكام الله فهذا سوء خلق مع الله سواء ردها منكرا حكمها أو ردها مستكبرا عن العمل بها أو ردها متهاونا بالعمل بها فان ذلك مناف لحسن الخلق مع الله عز وجل . ولنضرب لذلك مثلا الصوم لاشك انه شاق على الانسان لان الانسان يترك فيه المألوف من طعام وشراب ونكاح وهذا أمر شاق ولكن المؤمن حسن الخلق مع ربه عز وجل يقبل هذا التكليف يقبل هذا التشرف وهذه النعمة من الله _عز وجل _يقبلها بانشراح وطمأنينة وتتسع لها نفسه فتجده يصوم الأيام الحارة الطويلة وهو بذلك راض منشرح الصدر لأنه يحسن الخلق مع ربه لكن سيئ الخلق مع الله يقابل مثل هذه العبادة بالضجر والكراهية ولولا أنه يخشى من أمر لا تحمد عقباه لكان لا يلتزم بالصيام.
ومثال آخر في الصلاة :
الصلاة لاشك أنها ثقيلة على بعض الناس وهي ثقيلة على المنافقين كما قال النبي عليه الصلاة والسلام:
"أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر " (البخاري ومسلم)
لكن الصلاة بالنسبة للمؤمن قرة عينه وراحة نفسه .
{واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين* الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون}(البقرة الآيتان:45،46)
فهي على هؤلاء غير كبيرة بل إنها سهلة يسيرة ولهذا قال النبي_صلى الله عليه وسلم _:
"جعلت قرة عيني في الصلاة"
( رواه أحمد . والنسائي . والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم . ووافقه الذهبي).
فحسن الخلق مع الله _عز وجل _بالنسبة للصلاة أن تؤديها وقلبك منشرح مطمئن وعيناك قريرتان تفرح اذا كنت متلبسا بها وتنتظرها إذا فات وقتها فإذا صليت الفجر كنت في شوق إلى صلاة الظهر وإذا صليت الظهر كنت في شوق إلى صلاة العصر وإذا صليت العصر كنت في شوق إلى صلاة المغرب وإذا صليت المغرب كنت في شوق إلى صلاة العشاء وإذا صليت العشاء كنت في شوق إلى صلاة الفجر . وهكذا دائما قلبك معلق بهذه الصلوات . هذا لا شك أنه من حسن الخلق مع الله .
ونضرب مثالا ثالثا في المعاملات :
في المعاملات حرم الله علينا الربا حرمه تحريما صريحا في القرآن {وأحل الله البيع وحرم الربا} [البقرة / 275] ،
وقال فيه { فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون }[البقرة / 275] ،
فتوعد من عاد إلى الربا بعد أن جاءته الموعظة وعلم الحكم توعده بالخلود في النار والعياذ بالله .
المؤمن يقبل هذا الحكم بانشراح ورضا وتسليم ، وأما غير المؤمن ، فإنه لا يقبله ويضيق صدره به ، يتحيل عليه بأنواع الحيل لأننا نعلم أن في الربا كسبا متيقنا وليس فيه مخاطرة ، لكنه في الحقيقة كسب لشخص وظلم لآخر ، ولهذا قال الله تعالى
{ وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تَظْلِمونَ ولا تُظْلَمونْ }[البقرة/279].
أما الأمر الثالث من موضوع حسن الخُلق مع الله ، فهو الرضا والصبر على المقدور ، وكلنا يعلم أن أقدار الله – عز وجل – التي ينفذها في خلقه بعضها ملائم وبعضها غير ملائم .
هل المرض يلائم الانسان ؟ أبدا الانسان يحب ان يكون صحيحا ، وهل الفقر يلائم الانسان ؟ لا. فالإنسان يحب ان يكون غنيا ، وهل الجهل يلائم الانسان ؟ لا. فالإنسان يحب ان يكون عالما . لكن أقدار الله _ عز و جل _ بحكمته تتنوع منها ما يلائم الانسان ويستريح له بمقتضى طبيعته ومنها ما لايكون كذلك فما هو حسن الخلق مع الله _عز وجل _ نحو أقدار الله ؟ حسن الخلق مع الله نحو اقداره ان ترضى بما قدره الله لك وان تطمئن إليه وان تعلم ان الله سبحانه وتعالى ما قدره لك الا بحكمة وغاية محمودة يستحق عليها الحمد و الشكر وعلى هذا فان حسن الخلق مع الله نحو اقداره هو ان الانسان يرضى ويستسلم ويطمئن ولهذا امتدح الله الصابرين الذين اذا أصابتهم مصيبة قالوا انا لله و انا إليه راجعون . وقال :
{وبشر الصابرين } ( البقرة آيه /155)
ونوجز ما سبق نقول ان حسن الخلق كما يكون في معاملة الخلق يكون في معاملة الخالق. وان حسن الخلق في معاملة الخالق هو تلقى اخباره بالتصديق وتلقي احكامه بالقبول والتطبيق . وتلقي اقداره بالصبر والرضا . هذا حسن الخلق مع الله .
أما حسن الخلق مع المخلوق فعرفه بعضهم . ويذكر عن الحسن البصري انه قال
( ( كف الأذى ؛ وبذل الندى ؛ وطلاقة الوجه ) ).
ثلاثة أمور:
1_ كف الأذى .
2_ بذل الندى .
3_ طلاقة الوجه .
الأول: كف الأذى.
ما معنى كف الأذى ؟
معنى كف الأذى ، أن الانسان يكف أذاه عن غيره سواء كان هذا الأذى يتعلق بالمال ؛ او يتعلق بالنفس ؛ او يتعلق بالعرض . فمن لم يكف أذاه عن الخلق فليس حسن الخلق ؛ بل هو سئ الخلق . وقد أعلن الرسول _ صلى الله عليه وسلم _ في اعظم مجمع اجتمع به في أمته . قال : (( ان دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا )) [أخرجه البخاري ومسلم].
اذا كان رجل يعتدي على الناس بالخيانة أو يعتدي على الناس بالضرب والجناية او يعتدي على الناس في العرض او بالسب والغيبة فهذا ليس بحسن الخلق مع الناس لانه لم يكف أذاه عنهم ويعظم إثم ذلك كلما كان موجها الى من له حق عليك اكبر ، فالإساءة الى الوالدين مثلا اعظم من الإساءة الى غيرهما والإساءة الى الأقارب اعظم من الإساءة الى الأباعد والإساءة الى الجيران اعظم من الإساءة الى من ليسوا جيرانا لك ولهذا قال النبي _عليه الصلاة والسلام _:
(( والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن قيل من يا رسول الله ؟ قال (( الذي لا يأمن جاره بوائقه)) وفي رواية لمسلم (( لا يدخل الجنة من لا يا من جاره بوائقه ))
والبوائق هي: الشرور .
الثاني : بذل الندى .
الندى هو الكرم والجود يعني ان تبذل الكرم والجود والكرم ليس كما يظنه بعض الناس هو ان تبذل المال بل الكرم يكون في بذل النفس وفي بذل الجاه وفي بذل المال اذا رأينا شخصا يقضي حوائج الناس يساعدهم يتوجه في شئونهم الى من لا يستطيعون الوصول إليه ينشر علمه بين الناس يبذل ماله بين الناس فنصفه بحسن الخلق لانه بذل الندى ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم
اتق الله حيثما كنت واتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن)
[أخرجه أحمد ، والترمذي ، والدارمي]
ومعنى ذلك أنك اذا ظلمت أو أسيء إليك فانك تعفو وتصفح وقد امتدح الله العافين عن الناس فقال في أهل الجنة :
{ الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين }
(آل عمران آيه134)
وقال الله تعالى { وأن تعفوا أقرب للتقوى } (البقرة آيه237)
وقال تعالى { وليعفوا و ليصفحوا } (النورآيه22)
وقال تعالى {فمن عفى وأصلح فأجره على الله } (الشورىآيه25) ،
وكل إنسان يتصل بالناس فلابد أن يجد من الناس شيئا من الإساءة فموقفه من هذه الإساءة أن يعفو ويصفح وليعلم علم اليقين أنه بعفوه وصفحه ومجازاته بالحسنى سوف تنقلب العداوة بينه وبين أخيه الى ولاية و صداقه قال الله تعالى
{ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فاذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم }(فصلت آيه 34)
فما هو الأحسن السيئة ام الحسنه ؟ الحسنه ، وتأملوا أيها العارفون باللغة العربية كيف جاءت النتيجة بـ ( إذا ) الفجائية تدل على الحدث الفوري في نتيجتها
{فاذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم }
ولكن هل كل أحد يوفق الى ذلك ؟ لا
{ وما يلقاها الا الذين صبروا وما يلقاها الا ذو حظ عظيم } (فصلت آيه 83)
وها هنا مسألة:
هل نفهم من هذا أن العفو عن الجاني مطلقا محمود ومأمور به ؟ قد نفهم من هذا الكلام أن العفو مطلقا محمود ومأمور به. ولكن ليكن معلوما لديكم أن العفو إنما يحمد اذا كان العفو أحمد فان كان أحمد فالعفو أفضل ولهذا قال الله تعالى :
{ فمن عفى وأصلح فأجره على الله }،
فجعل العفو مقرونا بالإصلاح .عفى وأصلح.. هل يمكن أن يكون العفو غير إصلاح ؟
الجواب :نعم .قد يكون هذا اجترأ عليك وجنى عليك وهو رجل شرير معروف بالشر و الفساد؛ فلو عفوت عنه لتمادى في شره و فساده، فما هو الأفضل حينئذ ، أن نعفو أو نأخذ بالجريمة ؟ الأفضل أن نأخذ بالجريمة ؛لأن في ذلك إصلاحا .
قال شيخ الإسلام : (( الإصلاح واجب ، والعفو مندوب )).
فاذا كان في العفو فوات الإصلاح فمعنى ذلك أننا قدمنا مندوبا على واجب . وهذا لا تأتي به الشريعة. وصدق رحمه الله . وإنني بهذه المناسبة أود أن أنبه على مسألة يفعلها كثير من الناس بقصد الإحسان . وهي أن تقع حادثة من شخص فيهلك بسببها شخص آخر فيأتي أولياء المقتول فيسقطون الدية عن هذا الجاني الذي فعل الحادث فهل إسقاطهم محمود ويعتبر من حسن الخلق أو في ذلك تفصيل ؟ في ذلك تفصيل .
لابد أن نتأمل ونفكر في حال هذا الجاني الذي وقع منه الحادث هل هو من الناس المعروفين بالتهور وعدم المبالاة ؟ هل هو من الطراز الذي يقول أنا لا أبالي أن أصدم شخصا لأن ديته في الدرج . والعياذ بالله ؟
أم أنه رجل حصلت منه الجناية مع كمال التحفظ وكمال الاتزان ولكن الله تعالى قد جعل كل شئ بمقدار؟ فالجواب : ان كان من الطراز الثاني فالعفو بحقه أولى ولكن قبل العفو حتى في الطراز الثاني يجب أن نلاحظ هل على الميت دين ؟ اذا كان عليه دين فانه لا يمكن أن نعفو .
ولو عفونا فان عفونا لا يعتبر وهذه مسألة ربما يغفل عنها كثير من الناس لماذا نقول انه قبل العفو يجب أن نلاحظ هل على الميت دين أم لا ؟ لماذا نقول ذلك ؟
لأن الورثة يتلقون الاستحقاق لهذه الدية من أين ؟ من الميت الذي أصيب بالحادث ولا يرد استحقاقهم الا بعد الدين ولهذا لما ذكر الله الميراث قال:
{ من بعد وصية يوصي بها } (النساءآيه11) ،
هذه مسألة تخفى على كثير من الناس وعلى هذا فنقول : اذا حصلت حادثة على شخص ما فانه قبل أن يقدم على العفو ننظر في حال الجاني أولا هل هو من المتهورين أم لا ؟ وفي حال المجني عليه هل عليه دين أم لا ؟
والحاصل : أن من حسن الخلق العفو عن الناس وهو من بذل الندى لأن بذل الندى : إما اعفاء واما اسقاط والعفو من الإسقاط.
الثالث : طلاقة الوجه .
بأن يكون الانسان طليق الوجه وضد طليق الوجه عبوس الوجه ولهذا قال النبي عليه الصلاة و السلام : (( لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق ))[أخرجه مسلم].
طلاقة الوجه تدخل السرور على من قابلك وعلى من اتجه لك وتجلب المودة والمحبة وتوجب انشراح القلب بل توجب انشراح الصدر منك وممن يقابلك _ وجرب تجد_ لكن اذا كنت عبوسا فان الناس ينفرون منك ولا ينشرحون بالجلوس إليك ولا بالتحدث معك وربما تصاب بمرض خطير يسمى بالضغط فان انشراح الصدر وطلاقة الوجه من اكبر العقاقير المانعة من هذا الداء داء الضغط ولهذا فان الأطباء ينصحون من ابتلى بهذا الداء بان يبتعد عما يثيره ويغضبه لأن ذلك يزيد في مرضه فطلاقة الوجه تقضي على هذا المرض لأن الانسان يكون منشرح الصدر محبوبا الى الخلق .
هذه الأصول الثلاثة التي يدور عليها حسن الخلق في معاملة الخلق .
ومما ينبغي أن يعرف من حسن الخلق حسن المعاشرة بأن يكون الانسان مع من يعاشره من أصدقاء ، و أقارب ، وأهل يكون حسن العشرة معهم لا يضيق بهم و لا يُضيق عليهم بل يدخل السرور عليهم بقدر ما يمكنه في حدود شريعة الله وهذا القيد لا بد منه في حدود شريعة الله لأن من الناس من لا يُسر إلا بمعصية الله والعياذ بالله هذا لا نوافق عليه لكن إدخال السرور على من يتصل بك من أهل و أصدقاء و أقارب هذا من حسن الخلق ولهذا قال النبي عليه الصلاة و السلام
(( إن خيركم خيركم لأهله و أنا خيركم لأهلي)) [ أخرجه أحمد ، وابن ماجة ، والهيثمي].
وكثير من الناس مع الأسف الشديد يحسن الخلق مع الناس ، ولكنه لا يحسن الخلق مع أهله وهذا خطأ وقلب للحقائق ، كيف تحسن الخلق مع الأباعد وتسيء الخلق مع الأقارب.؟ فالأقارب أحق الناس أن تحسن إليهم الصحبة والعشرة ، ولهذا قال رجل يا رسول الله :
(( من أحق الناس بصحابتي؟ قال: أمك ، قال : ثم من؟ قال : أمك ، قال : ثم من ؟ قال : أبوك . في الثالثة أو الرابعة )) [ البخاري ومسلم ].
والحاصل أن إحسان العشرة مع الأهل والأصحاب والأقارب كل ذلك من حسن الخلق ، وينبغي لنا في هذه المراكز الصيفية أن نستغل وجود الشباب بحيث نمرنهم على إحسان الخلق لتكون هذه المراكز تعليم وتربية ، لأن العلم بدون تربية قد يكون ضرره أكثر من نفعه ، لكن مع التربية يكون العلم مؤديا لنتيجته المقصودة ، ولهذا قال الله تعالى
{ ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون } (آل عمران 78).
هذه فائدة العلم أن يكون الإنسان ربانيا بمعنى مربيا لعباد الله على شريعة الله .
فهذه المراكز الذي نأمل من القائمين عليها أن يجعلوها ميدانا للتسابق في الأخلاق الفاضلة ومنها حسن الخلق ، فحسن الخلق يكون بالطبع ويكون بالتطبع - كما تقدم – وحسن الخلق بالطبع أكمل من حسن الخلق بالتطبع ، وأتينا على ذلك بدليل وهو قول الرسول عليه الصلاة والسلام (( بل جبلك الله عليهما )) ،
وحسن الخلق بالتطبع قد يفوت على الإنسان في مواطن كثيرة ، لأن حسن الخلق بالتطبع يحتاج الى ممارسة وإلى معاناة وإلى تذكر عند وجود كل ما يثير الإنسان ، ولهذا جاء رجل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام [ قال يا رسول الله أوصني ، قال : (لا تغضب ) وقال النبي عليه الصلاة و السلام (( ليس الشديد بالصرعة و إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب )) [ البخاري ومسلم ]
ما معنى الصرعة ؟ هو الذي يغلب الرجال و يصرعهم .
( ليس الشديد بالصرعة ) يعني الذي يصرع الناس . ولكن إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب الذي يصرع نفسه و يملكها عند الغضب هو الشديد . وملك الانسان نفسه عند الغضب يعتبر من أحاسن الأخلاق فاذا غضبت فلا تنفذ الغضب استعذ بالله من الشيطان الرجيم واذا كنت قائما فاجلس واذا كنت جالسا فاضجع واذا زاد بك الغضب فتوضأ حتى يزول عنك .
والمقصود أننا نقول :ان حسن الخلق طبع وتطبع وأن حسن الخلق بالطبع هو الأفضل ؛لأنه يكون سجية الانسان ويسهل عليه في كل موطن ولكن التطبع قد يفوته في بعض المواقف.
كذلك نقول ان حسن الخلق يكون بالاكتساب بمعنى أن الانسان يمرن نفسه فكيف يكون الانسان
حسن الخلق ؟ يكون الانسان حسن الخلق بالآتي
أولا : بأن ينظر في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم ينظر النصوص الدالة على مدح ذلك الخلق العظيم والمؤمن اذا رأى النصوص تمدح شيئا من الأخلاق أو من الأعمال فانه سوف يقوم به .
ثانيا: مجالسة الأخيار و الصالحين الموثوق في علمهم و أمانتهم يقول النبي عليه الصلاة و السلام :
(( مثل الجليس الصالح والجليس السوء كمثل صاحب المسك و كير الحداد لا يعدمك من صاحب المسك أما تشتريه أو تجد ريحه و كير الحداد يحرق بدنك أو ثوبك أو تجد منه ريحا خبيثة )) [ أخرجه البخاري ].
فعليكم أيها الشباب أن تصاحبوا من عُرفوا بحسن الأخلاق و البعد عن مساوئ الأخلاق و سفاسف الأعمال حتى تأخذوا من هذه الصحبة مدرسة تستعينون بها على حسن الخلق .
ثالثا :أن يتأمل الانسان ماذا يترتب على سوء خلقه فسيء الخلق ممقوت وسيء الخلق مهجور وسيء الخلق مذكور بالوصف القبيح .
فاذا علم الانسان أن سوء الخلق يفضي به الى هذا فانه يبتعد عنه .
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المتمسكين بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم ظاهرا و باطنا و أن يتوفانا على ذلك و أن يتولنا في الدنيا و الآخرة و أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا و أن يهب لنا منه رحمة انه هو الوهاب .