دلــفت كالإشعاع من بابه المغلق .. لأجد ساكننا الأول جالساً أمام شاشة
حاسوبه .. وقد تركّز بصره على ما حرم ربّه .. يحدق بعينيه تارة ويغلقها
تارة ..
اقتربت أكثر من رأسه اقرأ ما يدور بعقله الغائب .. وما وجدت سوى كلمات
مبعثرة تذروها هش الرياح .. سيأتى يوماً لأتوب وأعود لربى! .. سيأتى يوماً
لأتزوج وأنسى كل هذا! .. ما زلت صغيراً وموتى ليس بالقريب!
وبعد عامٍ كررت زيارتى لساكننا .. آملاً أنه وجد يوم توبته المنتظر .. ولكن ما وجدت ساكننا .. بعد أن
وجده يومٌ آخر .. غير مُنتظــر!
الــدور الثانى .. استكملت صعودى على سلم ملأته الأتربة والصدأ لأجد دورنا الثانى وبابٌ تلَّون بألوان الورود ..
نسيت غلق بابها .. وجلست فوق سريرها الوردى .. لتقرأ كلماته والتى طالما
داعبت قلبها .. " أٌحبك أكثر من نفسى " .. " أنتى ملاكٌ يحلق فى سماء قلبى
" .. " سأنتظرك فى عِشُّـنا الصغير صباحاً " .. " لا تتأخرى يا رائعة عمرى
" ..
وعندها احتضنت ورقتها الصغيرة إلى صدرها .. وأغمضت عينيها قليلاً ثم نهضت
.. وبدأت تفكر .. ما ستقول لأمها غدا لتتعلل به عند الخروج .. صباحاً!
وعندما كررت زيارتى فى العام الذى يليه .. وجدت ساكنتنا .. وعلى نفس
سريرها الوردى .. ممسكة بنفس الورقة .. بكلمات اختلفت عن سابقتها .. "
تحتّم علىّ السفر .. وربّما .
. ربّما أعود! .. "
الــدور الثالث .. استكملت صعودى نحو الدور الثالث وقد ظهرت الشقوق فى الحوائط .. وتعجبت من ساكنى تلك العمارة كيف لا يرون سوء عمارتهم من داخلها؟! .. أم أن بريقها من خارجها أعماهم عن باطنها!!
ها قد وصلت إلى بابنا الثالث .. وكالعادة .. مررت من خلاله ...
جلست فوق الأريكة وقد خط الشيب فى راسها ... تحادث صديقتها من جوالها
الحديث .. " ما شاء الله عليه .. ولدى لا يفوته فرضٌ من الفروض " .. "
ولدى مثال للأدب والأخلاق " .. " ما فى أحنُّ علىّ من ولدى" ..
وقليلٌ .. وبعد أن أغلقت هاتفَها رددت على مسامعها بصوت منكسر " ما زال صغيراً وغداً سيكون ولدى الأفضل " ..
وقليلٌ أخرى ودخل الصغير الكبير .. وقد أحاط كفه بعلبة سجائره .. وأحاطت
سلاسل الدنيا برقبته .. " أمى .. أريد مالاً للخروج مع أصدقائى الليلة "
...
ولم تفكر ساكنتنا كثيراً لتخرج ما اراد وأكثر .. ناصحة له نصيحتها المعتادة ... " لا تخبـــر .. أباك .. !"
وعامٌ مضى وكررت الزيارة .. لأجد ساكنتنا .. وفوق نفس الأريكة .. وإلى نفس
الصديقة تتحدث .. " ولدى مظلوم " .. " ولدى ما يعرف المخدرات " .. " ولدى
... " .. وأكملت حديثُها ... بكاءاً!
الــدور الرابع .. استمررت فى الصعود وكدت أسقط فوق احد الدرجات المتهدّمة .. حتى وصلت إلى دورنا الرابع للتعرف على ساكن آخر .. من سكان عِمارتنا ..
عِمارة الأوهام ...وقف أمام فراشه يرتّب فى حقيبة سفره .. وقد أمسك ببرواز يحمل بين طياته
صورة زوجته الحبيبة وأبناءه الثلاثة .. تأملهم كثيراً ثم احتضن بروازه
ووضعه فى هدوء فوق ملابسه داخل الحقيبة .. ودخلت زوجته وعلى ملامحها حزن
الفراق ..
" أنتى الآن مسئولة عن ابى وأمى وأولادنا .. لقد اشتريت لكم تلك الشقة بما تبقى من مال الأرض والمنزل بقريتنا .. والباقى دفعته للرجل الذى سهّل لنا السفر إلى إيطاليا على تلك العبّارة ..
حلم حياتنا على وشك أن يتحقق .. وسأرسل لكِ المال بمجرد وصولى وحصولى على عمل يحقق لنا ما نتمناه .. "
ومر العام وكررت الزيارة .. ولم أجد ساكننا .. ولا أهله وذويه .. وعند السؤال .. قالوا .....
" بلعته مياه البحر .. "