1- كان السفراء من قبائل متعددة
لم يختر الرسول السفراء من قبيلة واحدة، ولم يكن هناك اثنان من قبيلة واحدة، وإنما كانوا من قبائل متعددة، فقد أرسل الرسول
- عمرو بن أمية من بني ضمرة إلى النجاشي.
- وبعث العلاء بن الحضرميّ من حضرموت إلى المنذر بن ساوَى ملك البحرين.
- وأرسل عبد الله بن حُذَافة من بني سهم إلى كسرى فارس.
- وأرسل دِحْية بن خليفة من بني كلب إلى قيصر الروم.
- وأرسل حاطب بن أبي بلتعة من بني لخم إلى المقوقس في مصر.
- وأرسل سَلِيط بن عمرو من بني عامر إلى هوذة بن عليّ في اليمامة.
- وأرسل شجاع بن وهب من بني أسد إلى الحارث بن أبي شمر في دمشق.
وهذا الاختلاف كان يقصده رسول الله ، فهذه إشارة واضحة جدًّا من الرسول إلى كل المسلمين، سواءٌ في المدينة أو في خارج المدينة، وإلى كل العرب المراقبين للأحداث، وإلى كل دول العالم التي أرسل إليها السفراء، وإلى كل المحللين والدارسين للسيرة على مدار السنين، وإلى يومنا هذا وإلى يوم القيامة، أن هذه الدعوة ليست قبليَّة بالمرَّة، بل هي تضم بين طياتها أفرادًا من كل قبائل العرب، وهؤلاء السفراء كانوا بمنزلة الصورة الجديدة المرجوَّة لهذه الأمة، فوَحْدة العناصر المختلفة على رباط واحد فقط وهو رباط العقيدة الإسلامية.
2- لم تمثل قريش في هذه السفارات إلا في صحابي واحد فقط
وهو عبد الله بن حُذافة السهميّ القرشي رضي الله عنه ، وبقية السفراء جميعًا ليسوا من قريش، وهذه إشارة من الرسول أن الأصلح هو الذي يُعطى العمل، ويكلف بالمهمة بصرف النظر عن النسب، والمكانة العائلية والقبيلية، ومع ذلك فالجميع يعرفون أن قريشًا هي أعلى العرب نسبًا. ومن الممكن أن يقول لنا قائل: إنه من الأصلح والأفضل أن نجعل السفراء كلهم من قريش حتى نرفع قيمتهم عند زعماء العالم، ولكن هذا كان سيترك رسالة عكسية سلبية، وهي أن السفارة لا تكون إلا في الأشراف، وهذا ليس صحيحًا؛ لأن الأكفأ والأفضل هو الذي يحمل الرسالة.
3- عدم وجود سفير من بني هاشم
فالتمثيل القرشي لم يكن قليلاً في هؤلاء السفراء فقط، وإنما كان التمثيل في بني هاشم منعدمًا تمامًا، وهذه إشارة واضحة من الرسول أنه لا يجب أن تُعطى المناصب المهمة إلاّ للأكفاء بصرف النظر عن قرابتهم أو علاقتهم بالقائد؛ لأن القائد المتجرد هو الذي ينظر إلى مصلحة الأمة لا مصلحة القبيلة، ويهتم بقضايا الشعب لا قضايا العائلة.
4- كان هؤلاء السفراء الكرام جميعًا من المهاجرين
لم يكن هناك أنصاري واحد، وفي كل مواطن السيرة قلَّما تقلد أنصاري منصبًا مهمًّا، أو منصبًا قياديًّا في الدولة الإسلامية؛ ولعل ذلك ليبقى الأنصار هم الرمز في المسلمين الذي يعطي ولا يأخذ، ولأن أهم سمة تميِّز الأنصار صفة (الإيثار)، مثلما وصفهم الله : {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9].
لا بد أن يظل هناك مَثَلٌ يُؤثِر على نفسه، وهو راضٍ مطمئن، وهذا المثل كان الأنصار ، فما نالوا من الدنيا شيئًا يذكر، لا في حياة الرسول ولا بعد وفاة الرسول ؛ فقد كانوا مثالاً رائعًا للعطاء بلا حدود ودون تردد، فكان من الأفضل أن يظلوا هكذا رمزًا للإيثار؛ لذلك فالرسول لم يعطهم السفارة ولا القيادة، لدرجة أن الرسول كما جاء في البخاري عن أنس رضي الله عنه ، عن أسيد بن حضير قال: إن رجلاً من الأنصار جاء إلى الرسول وقال له: يا رسول الله، ألا تستعملني كما استعملتَ فلانًا؟
يعني فلانًا وفلانًا وفلانًا أُعطوا الإمارة، ألا تستعملني؟ فقال يخاطب الأنصار عامَّة: "سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ"[1].
فالرسول يوصي الأنصار أن لا يبحثوا أبدًا عن الإمارة؛ ليظل دائمًا هناك مَثَلُ الإيثار واضحًا نقيًّا، فهذا تميُّز واضح عند الأنصار ، وليس معنى ذلك أن المهاجرين كانوا يتطلعون إلى الإمارة أو يرغبون في السفارة؛ أبدًا، بل على العكس فالمهاجرون قد باعوا الدنيا تمامًا، فهذه السفارات -على شرفها- خطيرةٌ جدًّا، وقد يكون ثمن هذه السفارة حياة السفير، وسوف نرى استشهاد الحارث بن عمير رضي الله عنه على يد شُرَحْبيل بن عمرو الغسَّاني، وكان هذا سببًا لغزوة مؤتة.
5- اتصاف السفراء جميعًا باللباقة والكياسة والذكاء والدهاء وحسن الحوار
ورأينا ذلك من خلال حوارهم مع زعماء العالم، فكانوا جميعًا على قدر المسئولية، وإنه من أَجَلِّ النِّعم على الأمة أن يُوسَّد فيها الأمر إلى أهله.
كانت هذه السفارات العديدة فعلاً نقلة نوعية في خط سير الدولة الإسلامية، انتقلت فيه الأمة الإسلامية من المدينة إلى كل أقطار الأرض، ومن المحليَّة إلى العالميَّة، ومن انتظار الفرصة المناسبة للدعوة إلى المبادرة بإرسال الرسائل التي تحمل الدعوة للإسلام في كل بقعة من بقاع العالم، إنها نقلة نوعية بكل المقاييس.
والخلاصة
نخلص من هذا الأمر أن الأنصار لم يكونوا يرغبون في السفارة ولا المهاجرين،
ولكن يؤدِّي كلٌّ منهم ما يناسبه، وكلٌّ مُيسَّر لما خُلِق له، والأنصار يقلون مع مرور الوقت، والناس حولهم يكثر عددهم، مهاجرين وغير مهاجرين، كما قال -والحديث في البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه -: "إِنَّ النَّاسَ يَكْثُرُونَ وَيَقِلُّ الأَنْصَارُ حَتَّى يَكُونُوا فِي النَّاسِ بِمَنْزِلَةِ الْمِلْحِ فِي الطَّعِامِ"[2].
إذن ليس من الحكمة أن يتعود الناس على قيادة الأنصار أو يظن الناس أن قيادة الأنصار لازمة، ثم بعد ذلك يفتقد الناس الأنصار لقلة أعدادهم، ولكن الأفضل أن يستمر في الإمارة والسفارة المهاجرون الذين تتزايد أعدادهم تدريجيًّا، ولهم مكانة كبيرة في قلوب العرب قاطبةً، ودائمًا الأنصار يساعدون المهاجرين في حكمهم وقيادتهم، كما قال سعد بن عبادة رضي الله عنه يوم السَّقِيفَة مخاطبًا المهاجرين: "أنتم الأمراء ونحن الوزراء"[3].
[1] البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي للأنصار: "اصبروا حتى تلقوني على الحوض" (3581). مسلم: كتاب الإمارة، باب الأمر بالصبر عند ظلم الولاة واستئثارهم (1845).
[2] البخاري: كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام (3429).
[3] رواه أحمد (18) ترقيم النسخة الميمنية، وعلق عليه شعيب الأرناءوط قائلاً: صحيح لغيره، رجاله ثقات رجال الشيخين وهو مرسل