على الرغم من الزخم الذي أثارته فتوى مجمع البحوث الإسلامية -أعلى هيئة علمية دينية في مصر- بجواز بناء الجدار الفولاذي على حدود مصر مع غزة، ومعارضتها لفتوى الشيخ القرضاوي بتحريمه، إلا أن الشيخ العلامة رفض أن يتم تخصيص الحلقة الماضية من برنامج "الشريعة والحياة"، الذي تذيعه فضائية "الجزيرة"، للرد على تلك الفتوى. ويبدو أن فضيلة الشيخ القرضاوي أراد الاشتباك مع الأمر بشكل عميق وغير مباشر في آن واحد، فقد أصر على أن يكون موضوع الحلقة عن: "الشباب والتدين"؛ حيث ركز الشيخ في الحلقة على الأسباب التي قد تدفع الشباب المسلم للإحباط والعنف، ومنها تأثير بعض العلماء "الدنيويين" على هؤلاء الشباب بفتاواهم المستفزة.
ودعا القرضاوي إلى ضرورة الوعي بالأسباب الفكرية والنفسية والاقتصادية والسياسية، الداخلية والخارجية، التي قد تدفع الشاب لتبني العنف والقيام بالأفعال العبثية، مستحضرا موقف الشاب النيجيري الذي اتهم بمحاولة تفجير طائرة أمريكية في الجو.
وأوضح القرضاوي أن هناك نماذج شبابية قرآنية يجب أن تكون مرجعا لشباب هذا العصر، وحصنا يقيهم من الوقوع في ثنائية الزلل والتشدد الذي يولد العنف، مطالبا أهل العلم والدعوة والحكمة بتقديم تلك النماذج للشباب وتطعيمها بالمواقف الخالدة التي خطها شباب صغار في تاريخ المسلمين.
وتابع الشيخ بأن هذا التوجه يجب أن يكون أنموذجا للقدوة بين الشباب، وأن يتحول إلى نقطة انطلاق لهم لملء فراغهم بالنافع، محذرا من أن يتحول الفراغ لمعبود بين الشباب، "فمن لا شيخ له كان الشيطان شيخه"، بحسب القرضاوي.
وأشار القرضاوي إلى عدة نماذج قرآنية، منها موقف سيدنا إسماعيل عليه السلام الذي أطاع ربه ولو أدى الأمر إلى قطع رقبته عندما قال لأبيه "يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين"، وموقف سيدنا يوسف الصديق الذي لم ينفع معه الترغيب والترهيب لدفعه لاقتراف الفاحشة، وهو في أوج شبابه وريعان شهوته، وقال قولة ذكرها الله في كتابه: " مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ"، و" قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ"، وموقف سيدنا إبراهيم عليه السلام الذي حطم الأصنام وهو "فتى"، وموقف فتية الكهف وأتباع الأنبياء عبر التاريخ الذين كان جلهم من الشباب.
ولم يقتصر القرضاوي على ذكر النماذج القرآنية، وإنما جاء بنماذج واقعية حتى لا يقول قائل إن القرآن يأتي بنماذج صعبة الوجود اليوم، فاستعرض الشيخ مواقف شباب الصحوة الإسلامية في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، خاصة في فلسطين وغزة، الذين يقاومون بوسائل جديدة ومبتكرة وقوية الحصار والتجويع والعدوان، فضلا عن الشباب المتطوع في مجال الإغاثة وأبواب الخير المتنوعة، ويعملون كأنهم شعلة من النشاط.
وأوضح أن سبل الخير والصلاح مفتحة أمام الشباب لخدمة مجتمعاتهم، والعمل على رفعة أمتهم وبلدانهم قائلا: "الشباب أمامه أنشطة متنوعة للقيام بها، وإشاعة الخير والدعوة عبر الإنترنت وغيرها من المجالات، فكل مسلم يجب أن يكون داعية للإسلام والخير، وهو مأمور بنص الخطاب القرآني: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي)".
ولم يمنع موضوع الحلقة القرضاوي من تجديد التمسك بموقفه الرافض لبناء الجدار الفولاذي العازل بين مصر وغزة، مؤكدا أن التوجيه النبوي حرم "حبس هرة عن أكل خشاش الأرض"، فكيف الأمر بالنسبة لحصار 1.5 مليون فلسطيني؟! وذلك ردا على تساؤلات المشاهدين التي انهالت عليه مطالبة إياه بتبيان موقفه من رأي بعض علماء الأزهر بإجازة بناء الجدار بحجة حفظ الحدود.
وأكد الشيخ أن تلك الفتوى التي قامت على أسس "ما أنزل الله بها من سلطان" لا يمكن أن تغطي على الموقف المشرف والمضيء من علماء آخرين يمثلون أضعاف من أصدروا تلك الفتوى، الذين استنكروا بناء الجدار وحرموه شرعا، لافتا إلى وجود علماء "دنيويين" في كل عصر.
وشدد القرضاوي على أهمية عدم التعميم في الحكم على العلماء، والتوازن في الحكم، وعدم النظر إلى الجانب المظلم من القضية، فأمة الإسلام لا تجتمع على ضلالة أبدا، ولكل عصر"عدوله من العلماء"، الذين يحرسون الدين والفضيلة والصلاح، ويتحملون عبء الرسالة، وتبليغ الحقيقة للناس في كل عصر و"لا يضرهم من خالفهم".
وتابع قائلا: "التعميم في هذه الحالة ليس صحيحا، فهناك جانب مشرق، وهناك علماء لهم تلاميذهم، ويعملون في المساجد، ولهم برامجهم في الفضائيات".
ولخص القرضاوي رأيه في مسألة الجدار الفولاذي بقوله: "لا يجوز سد باب الرحمة عن 1.5 مليون وتركهم يموتون جوعا بقطع الرئة التي بها يتنفسون (الأنفاق) وإغلاق المعابر"، مقدما مجموعة من الاستشهادات الشرعية الحاضة على تضامن المسلمين ومناصرة بعضهم لبعض، وحق الجار الأقرب في الدفاع عن أخيه المظلوم.