أنا في الزنزانة يا مامابقلم/ فادية الغزالي حرب الأحد, 2010-01-24 21:09
في العاشرة مساء يوم الخميس الموافق 1/12/2010 كانت ابنتي سلمي ذات
العشرين عامًا تستعد للسفر إلي نجع حمادي ضمن مجموعة لا تتجاوز الثلاثين
فرداً من شباب الناشطين السياسيين والمدونين لتقديم العزاء لكنيسة نجع
حمادي في ضحايا المذبحة الأخيرة التي راح ضحيتها ستة من المسيحيين ومسلم،
كان فخري أنا ووالدها الذي يعمل في الخارج بإيجابيتها وحرصها علي المشاركة
أكبر من أن ننحني أمام موجة اللوم والتحذير التي حاصرتنا من قبل الأهل
والأصدقاء، إذ كيف لنا أن نأمن عليها في هذه الرحلة المرهقة، ناهيك عن
كونها فتاة لا يجب أن تنخرط في نشاط عام يعرضها لمتاعب هي في غني عنها
واحنا مش وش بهدلة وغيرها من المفاهيم السائدة في مجتمع أدمن الانعزال
واتخذ منه بابًا يسد به كل ريح أو حتي نسمة عابرة!
ذهبت سلمي وقد
تم التأكيد عليها بضرورة طمأنتنا علي سلامة وصولها، بلغ النهار المنتصف
ولم تف سلمي بوعدها كان هاتفها المحمول مغلقاً، أخذنا نبحث عن هاتف واحد
من زملائها حتي جاء صوت أحدهم يخبرنا بأنه قد تم القبض عليها هي وزملاؤها
بمجرد نزولهم من القطار! طوقتهم قوات الأمن المركزي بصيحاتها المهيبة، ترج
المكان رجًّا يشي بأن خطبًا جللاً قد لحق بالمدينة الصغيرة!
وبسرعة ومهارة
وقبل أن يكمل الشباب سؤالهم عما يحدث سحبوا هواتفهم المحمولة ماعدا واحد
من حسن الحظ لم ينتبهوا إليه، كل ذلك تم بأدب جم وترحيب بوصولهم بالسلامة،
ولم تدرك صغيرتي أنها في قبضة الأمن إلا حينما انقلبت لهجة ضابط المباحث
التي كانت منذ لحظات قليلة عامرة بالترحاب إلي غلظة وفجاجة حينما رفض طلب
بعضهم دخول حمام استراحة المحطة! ثم دفعوا بهم في سيارتي بوكس إلي قسم
شرطة قنا وهناك احتجزوهم في زنزانتين إحداهما للرجال والأخري للنساء
لتتعرف ابنتي ذات العشرين عامًا علي مكان لم تتخيل يومًا أن يكون من
نصيبها!
وبصعوبة استطعت أن أكلمها عبر المحمول الذي فلت من قبضتهم،
تكلمنا جملتين صعب أن تمحيهما الذاكرة : آلو سلمي أنت فين ياحبيبتي.
أيوة يا ماما أنا في الزنزانة ما تخافيش أنا كويسة! نعم أدركت أنها بالفعل
كويسة وأفضل مما كانت وأنضج مما كنا نتصور، حين بدأت أحداث الفتنة
الطائفية تتصاعد، كان الوجع كبيرًا في بيتنا الذي ينتمي لعائلة عميدها
الراحل كان أزهريًّا كاتبًا وباحثًا إسلاميًّا علاَّمة، نصف أصدقائه
مسيحيون، كانت تحيته العابرة صباح الخير ومساء الخير وسعيدة،
المسيحيون في
حينا شبرا الذي نشأنا فيه كانوا الجيرة الحلوة وموضع الثقة الدائمة
والعشرة التي لا تهون إلا علي أمن الدولة!، في حي شبرا كنا صغارًا ننتظر
بشغف أعيادهم كما أعيادنا، نصنع الميدليات من زعف النخيل التي يهدوننا
بعضًا منها وهم قادمون من قداس كنيسة سانت تريزا في أحد الزعف، نتبادل
أطباق الكعك ونفرح بأكياس الحلوي يحملونها إلينا حين عودتهم من مولد ماري
جرجس ويطهون طعامًا شهيًا من نصيبهم في خروف العيد الكبير، وتحفظ أمي عن
ظهر قلب مواقيت صيام العذراء والصيام الكبير والندر بالصيام بالماء والملح
ونسعد حين تمطر السماء في عيد الغطاس، هذه ذكرياتنا وحكايانا لأولادنا
فكيف لا تتحمس ابنتي لأن تشارك زملاءها الذهاب لنجع حمادي للعزاء، ولكن
دعونا من حديث الشجون فلا نهاية له وتعالوا نتأمل الثلاثة أيام التي مرت
علي هؤلاء الشباب الذين ذهبوا في مهمة نبيلة تقع علي عاتق عقلاء ومثقفي
هذا الوطن علي حد تعبيرالرئيس مبارك!!
وعقلاء هذا الوطن كانوا في الحقيقة
مجانين هذا الوطن إذ كيف يتجاسرون علي الخروج عن نسق القطيع ويحاولون أن
يفهموا ويعترضوا ويشاركوا وُيسمعوا صوتهم لمن به صمم؟! كانت تجربة قاسية
لابنتي وزملائها وهي تلتقي بالواقع المفجع وجهًا لوجه، لقد تصورت أنهم
سيستقبلونهم بالترحاب لقيامهم بهذا المجهود التطوعي الذي يجسد وعيًا
وإحساسًا بالمسئولية تجاه وطن تتهدده أخطار الفتن لا نراه إلا قليلاً،
فكان أن وجُهت لهم تهم التجمهر وإحداث البلبلة وتوزيع منشورات تحض علي
الكراهية! وظلت المفاوضات جارية بين أفراد من المجتمع المدني ورجالات
الشرطة الهمام لاستبدال النوم في الزنزانة للفتيات بالنوم في المستشفي
العام حيث الأسرة القذرة تحيطها الحشرات والقاذورات من كل جانب! وتنتهي
الرحلة بإصرار الأمن علي أن يعود الشباب إلي بيوتهم بعد أن أخلوا سبيلهم
في عربتي ميكروباص ويقضون حوالي الثماني ساعات في الليل لتتسلمهم أسرهم في
الثانية بعد منتصف الليل!
هكذا يُعامل عقلاء الوطن! المدهش أن الناس من
حولنا يعتبروننا محظوظين لأن الشرطة عاملتهم معاملة جيدة علي أساس أنه في
الأصل هو الإهانة للمواطن أي لكل من يحمل الجنسية المصرية، وعلينا أن
نستوعب الدرس ونمنع البنت من التورط في مثل هذه الأنشطة ونجعلها تتوب
وتمشي بجوار الحائط سالمة مسالمة! ولأن الأرض الخصبة لا يأتيها البوار،
فالدرس الذي أرادته حكومة الطوارئ وصل إلي العنوان الخطأ وأدركت ابنتنا
وزملاؤها من يحكم ويتحكم في هذا الوطن، وأدركت لماذا لم يوجه أمن الدولة
تهمة التجمهر حين خرج جموع المضللين في ماتش كورة يريدون النيل من عدو
مختلق من دمنا وتاريخنا، بينما عدونا الحقيقي في الداخل يخرب العقول ويقضي
علي الآمال ويمنع الأحلام، يريد أن يحيلنا إلي قطعان تتوه عن طريقها حتي
يبقي ويستمر، يرثنا ويورثنا، أدركت سلمي ما لم تدركه من قبل فشكرًا لأمن
الحكومة عبيدًا وسوطًا وأداة!!