في اليابان يستطيعون أن يعرفوا ما إذا كان اليوم27 يناير عام2030 أو
حتي2050 سيكون يوما ممطرا أو مشمسا.. ليس فقط لأنهم طوروا أجهزة فلك
وطقس متقدمة للغاية.. ولكن لأن لديهم تراكما في كل المجالات.
السبب في هو أن المتخصصين في اليابان يسجلون ويرصدون التغيرات المناخية
والتحركات الزلزالية والبركانية منذ أكثر من مائتي عام. كل هذه المعلومات
متاحة ومتوافرة للخبراء والباحثين بل عامة الناس, ومن الصعب في اليابان
أن تباغتهم سيول من الأمطار الغزيرة لم يعملوا لها حسابا كما يحدث
عندنا.. ونشعر بأننا أخذنا علي غرة في كل مرة تحدث فيها امطار غزيرة أو
عواصف بالرغم من أنها تتكرر في المواعيد نفسها تقريبا ـ ربما مع بعض
التغير الطفيف سواء بالقدوم مبكرا عدة أيام أو اكثر غزارة أو أقل.. لكن
التوقيتات شبه ثابتة ومع ذلك لا نعمل لها حسابا ولا ننبه الناس إليها..
بل الأدهي والأمر أننا نعرف بحكم العادة والتكرار أن مناطق محددة تعد
مجاري للسيول أو ملتقي لمياه الأمطار التي تكون السيول نتيجة اندفاعها من
المناطق المرتفعة إلي المناطق المنخفضة لتستقر في منطقة محددة.. ومع ذلك
فإن جهلنا أو طمعنا يدفعنا إلي أن نختار تلك المناطق لتكون مدنا يقيم فيها
الناس وما أن تأتي الأمطار الغزيرة التي سرعان ما تتحول إلي سيول تجرف في
وجهها تلك المباني وتغرق هؤلاء البشر.. وكأننا لم نكن نعرف أنها مقر
مياه السيول.. ويخسر الناس حياتهم وأموالهم وتضيع علي الدولة الفقيرة
التي تعاني من شح الموارد المالية ملايين وربما مليارات بسبب الجهل وقلة
الضمير وأشياء أخري!
فماذا فعلت اليابان حتي لا تغرقها السيول, بل وتستفيد من مياهها؟عندما ذهبت إلي اليابان لأول مرة في أغسطس عام1990 كنت
أبدي دهشة كبيرة للغاية من أن الأمطار لا تتوقف تقريبا لا ليل ولا
نهار.. وتظل تهطل أياما وربما أسابيع دون توقف.. ولكن الحياة تمضي كما
هي.. والشوارع ليس بها نقطة من مياه الأمطار ـ ولا المجاري طبعا ـ
والمدهش أنني لم أشاهد الشوارع تتحول إلي برك ومستنقعات نتيجة غزارة مياه
الأمطار.. بالرغم من أن شوارع العاصمة طوكيو كلها طالع نازل منها
المنخفض للغاية والمرتفع.. فهي أرض ليست مستوية أو منبسطة مثل انبساط
أرضنا ولكنها مرتفعات ومنخفضات وروابي..
وتساءلت أين تذهب مياه الأمطار؟فأخذني من يدي صديق ياباني يعمل باحثا واستاذا في جامعة طوكيو.. وزرنا
عدة أنهار صناعية في أنحاء مختلفة من العاصمة, وشرح لي كيف أنهم قسموا
المدينة وشقوا بها عدة أنهار صناعية يتناسب العدد مع ما لديهم من معلومات
عن حجم وغزارة مياه الأمطار التي تهطل علي البلاد حتي تستوعب هذا الكم
الكبير من الأمطار. وتنقل هذه الأنهار مياه الأمطار إلي المحيط دون أن
تغرق الشوارع أو تتحول إلي بحر وبرك ومستنقعات وتعوق دولاب العمل في
البلاد.; لأن تعطيل العمل في اليابان دقيقة واحدة يكلفها مليارات أما
عندنا فإنه من الواضح أنها لا تفرق!
ولكن ما هي تلك الأنهار الصناعية التي شيدوها في اليابان
لاستيعاب مياه الأمطار.. مما تتكون؟اليابان تاريخيا دولة زراعية.. الأرز هو محصولها الرئيسي الذي يعتمد
عليه الشعب في طعامه وهو يعتمد عليه منذ بدأت حضارة اليابان منذ آلاف
السنين ومعروف أن زراعة الأرز تحتاج إلي مياه وفيرة.. وهكذا اعتمدت
البلاد علي مياه الأمطار التي شقت لنفسها عدة أنهار في أنحاء اليابان في
زراعة الأرز لإطعام شعبها, وهكذا اعتبرت اليابان منذ القدم مياه الأمطار
ومحصول الأرز من مقومات الأمن القومي للبلاد, واعتنت بهما
وطورت الحياة اعتمادا عليهما.
واعتبر اليابانيون مياه الأمطار نعمة لا نقمة, تمدهم
بالحياة والنماء, ولا تجلب لهم الخراب والدمار ـ كما تفعل عندنا ـ
وأصروا علي الاستفادة منها بأقصي قدر ممكن بالعلم والدراسة.
ومن هنا.. عندما بدأت اليابان مشروع الدولة الحديثة في عام1868 مع عهد
الميجي وإصلاحاته.. وضع خبراء البلاد ومصلحوها في اعتبارهم الظروف
المناخية للبلاد, بحيث تتم الاستفادة الكاملة من مياه الأمطار وفي نفس
الوقت يوفرون أفضل وسائل الحماية للشعب حتي لا تغرقه سيول الأمطار.
مع ملاحظة
أن معظم أراضي اليابان إما جبال مرتفعة أو مرتفعات ومنخفضات
وجزر. وبالأرقام فإن71% من أراضي اليابان وعرة ولا تصلح للسكن أو
الزراعة في حين أن29% فقط من أراضي البلاد هي المأهولة والمزروعة..
ومن هنا وضع مهندسو اليابان خططا لشق أنهار صناعية في كل المدن تقريبا حتي
تحمل مياه الأمطار إلي المحيط.. وتم تشييد الأنهار الصناعية من الأسمنت
وهي عميقة للغاية يزيد عمق بعضها علي40 مترا أو أكثر في باطن الأرض مع
ربطها بشبكة مصارف ـ منفصلة عن شبكة المجاري,
وهذه المصارف تستقبل مياه
الأمطار عبر بلوعات متقاربة في الشوارع لا يزيد بعد الواحدة عن الأخري
أكثر من مائة متر أو أقل. وتنقل مصارف الشوارع مياه الأمطار إلي الأنهار
الصناعية التي تنقلها بدورها إلي المحيط.. ولم ينس اليابانيون أن
يستفيدوا من هذه المياه قبل وصولها إلي المحيط فأقاموا السدود علي هذه
الأنهار للاستفادة من تدفق المياه في توليد الكهرباء, وحجز جزء من
المياه للاستفادة بها في زراعة الأرز.
وقد زرت مع استاذي في جامعة اليابان الدولية وأنا أدرس الماجستير في
تيجاتا بشمال اليابان العديد من القناطر التي أقامتها اليابان للاستفادة
من مياه الأمطار. وأوضح إشيكاوا سينسيه أو البروفيسور إشيكاوا كما كنا
نناديه, وكان متخصصا في تاريخ الزراعة في مصر في عهد محمد علي باشا,
كيف استفاد اليابانيون من تجربة القناطر التي شيدها محمد علي في مصر وهو
يبني مصر الحديثة. وقال الرجل بكل فخر أمام كل الدارسين كيف أن قناطر
محمد علي كانت متقدمة للغاية في هذا الوقت وأن اليابان لم تجد أفضل منها
لتدرسها وتقيم قناطر علي غرارها!.
لهذا هم يتقدمون.. لأنهم يستفيدون من تجارب العالم ويدرسونها بعناية
ودقة وبكل التفاصيل.. الايجابيات والسلبيات. ما يتفق مع ظروفهم وما لا
يتفق, وتتراكم المعرفة لديهم;. فهم يعملون لصالح بلدهم ووطنهم قبل كل
شيء, بينما نبدأ نحن دائما من الصفر لا من حيث انتهي الآخرون.
وهكذا, تبدأ حياتنا من الصفر مع كل يوم جديد بكل ما يعنيه هذا من ضياع
الوقت والجهد. ولن نصبح مثل اليابان إلا إذا عمل كل مصري في كل موقع
بوازع من ضميره من أجل مصر.. ومصر فقط بتراكم المعرفة والخبرة.!!