مصر.. بين الاتجار بالبشر والاتجار بالوطنبقلم/ ياسر ايوب الأربعاء، 10 فبراير 2010 - 20:51
السجن المشدد لمدة تتراوح بين سبع سنوات وعشرين سنة، وغرامة مالية تتراوح بين
خمسين ألفا و مائتى ألف جنيه.. هذه هى عقوبة كل من تثبت إدانته فى أى من جرائم
الاتجار فى البشر، حسب القانون الجديد الذى أحالته الحكومة مؤخرا للبرلمان لمناقشته
تمهيدا لإقراره.
وعلى الرغم من تأكيداتهم بأن الثلاثين مادة التى يضمها
القانون الجديد، تغطى أشكال الاتجار بالبشر كافة.. فإننى لا أظن ذلك.. فلا تزال
هناك جرائم كثيرة للاتجار بالبشر، ولم ينص عليها، ولم يتطرق لها هذا القانون
الجديد.. فالاتجار بالبشر ليس فقط اختطافهم كعبيد فى سوق العمل أو الدعارة، وليس
مجرد تهريبهم عبر حدود وبحار، وبيعهم للموت مقابل المال.. وإنما أتخيل أنه يتاجر فى
البشر كل من يخدعهم.. كل من يستغل طيبتهم وحاجتهم.. يتاجر فى البشر كل من ينجح فى
استغلال فقر الناس ليزداد ثراء، وكل من يحيل أوجاع الناس ومخاوفهم إلى أموال جديدة
يستمتع وحده بها.. فالمقاول الذى يغش فى بناء بيت أو فندق أو رصف طريق هو مقاول
فاسد.
لكن الذى يغش ويتربح من إساءة ترميم مستشفى للسرطان أو مدرسة للصغار،
هو أحد المتاجرين بالبشر.. والذى يعارض الحكومة لأنه رافض أداءها وفسادها، هو رجل
صاحب وجهة نظر ورؤية مخالفة.. لكن الذى يتظاهر بعداء الحكومة فى العلن، ثم يقتسم
معها المغانم فى الخفاء، ويخدع الناس ويربح نفس المال الذى يجنيه الحكوميون
الفاسدون هو رجل يتاجر بالبشر.. والذى يهاجم إبراهيم سليمان وينتقد سابق تصرفاته
أثناء سنواته كوزير للإسكان، هو أحد الغاضبين والموجوعين من كل هذا
الفساد.
أما الذى يتعمد إثارة الصخب الأجوف حول وزير سابق، ليبقى الأمر
محصورا فى شتيمة الوزير والسخرية منه، دون أن يتسع ويشمل كل الذين استفادوا من فساد
الوزير، وحصلوا على الأراضى والفيلات والشاليهات هو رجل يتاجر بمشاعر الناس
وأفكارهم وحساباتهم.. والذى يغش فى صناعة قميص أو ساعة أو قلم أو حذاء هو لص بلا
شرف أو ضمير.. لكن الذى يغش ويقدم للناس طعاما من مخلفات المستشفيات، أو لبنا
للأطفال ليس صالحا للاستخدام، هو مجرم يتاجر فى البشر.. ولا فرق بين الذى يختطف
فتاة لإجبارها على ممارسة الدعارة، وبين الذى يخدع فتاة ويسرق منها شرفها
ومستقبلها، لينتهى بها الأمر إلى ممارسة الدعارة..
لا فرق بين من يتربح من شحن شاب
أو أكثر بطريقة غير شرعية إلى اليونان أو إيطاليا، وبين من يجبر شابا أو أكثر على
الهجرة.. غير شرعية أيضا.. ولكن إلى العشوائيات أو إلى شواطئ الإحباط واليأس
العظيم.. لا فرق بين من يسرق أعراض الناس وبين من يسرق أراضيهم وحقوقهم.. لا فرق
بين من يتاجر بجسد زوجته أو ابنته، وبين من يتاجر بكلمته أو أغنيته أو كتابته أو
مشاعره ومواقفه.. كلهم فى النهاية سواء.
لكن القانون الجديد لا يطالهم كلهم،
ولن يحاسبهم كلهم، رغم أن الجرائم واحدة.. تختلف تفاصيلها ووقائعها وشخوصها، لكن
يبقى لها فى النهاية توصيف قانونى وإنسانى وأخلاقى واحد اسمه الاتجار بالبشر.. وقد
يكون هناك عذر حقيقى لمن وضعوا هذا القانون الجديد، وهو أنهم استعاروا قوانين
الاتجار بالبشر من دول غربية، وحاولوا تمصيرها.. وفاتهم أن ما يجرى فى مصر الآن لم
يعد له مثيل مما يجرى هناك فى الغرب.. فلديهم هناك قوانين صارمة تواجه أى خروج على
القانون، أو أى إساءة مادية أو أخلاقية لجموع الناس، أو أى فرد، وبالتالى لم يكن
ينقصهم فقط إلا قانون إضافى يخص الاتجار بالبشر فى نواح وأغراض محددة وجديدة
لم تكن موجودة فى الماضى.
بينما نحن فى مصر لدينا أكبر عدد من القوانين تملكها أى
دولة فى العالم.. لكنها قوانين لا يجرى تطبيقها إلا على الفقراء والبسطاء وحدهم..
قوانين كثيرة وطويلة تباع على الرصيف أمام دار القضاء العالى ونقابة المحامين..
لكنها تختفى كلها إن كان السارق وزيرا أو مسئولا أو قريبا ونسيبا لأحد الكبار..
تختفى تماما إن كان الضحية هو المواطن العادى الذى ليس له فى هذا الوطن حقوق أو
احترام أو حياة.. بينما لو كان الضحية مسئولا كبيرا أو مهما.. فجأة تكشر هذه
القوانين عن أنيابها، وتغدو بمنتهى الشراسة والقوة والحزم المفاجئ.. وآه من عدالة
لم تعد عمياء، وباتت عيونها مفتوحة عن آخرها، سواء كانت الجريمة اتجارا فى بشر،
أو اتجارا فى وطن.