صورة البطة التي أبكت العالم
هذه الصورة التي أبكت تلك القلوب الرقيقة جداً في كل العالم فمكوناتها لا تبعث إلا على الأسى والحزن العميق ، عندما ترى ذلك المزيج العجيب من الحسرة والألم ظاهراً على وجه تلك البطة
المسكينة التي فقدت صغارها الخمسة في غمضة عين نتيجة لتهورها واعتدادها
بنفسها رغم فكرها القاصر وعقلها الناقص الذي لم يجنبها الخطر الذي كان
يترصد بصغارها وهي تعبر فتحات التهوية الأرضية بكل ثقة ، بعد أن عاشت نفس
لحظات التردد التي نمر بها وتمر بها جميع الكائنات الحية قبل خوض غمار أي
مغامرة فاشلة كتحذير إلهي من مغبة الإقدام على هذا الأمر الذي ربما يكون
فيه هلاكنا ، ولعلنا ندرك من سياق هذه القصة أننا قد نلقى نفس مصير صغار البطة عندما ننقاد خلف كل ما هو غربي !!
فهؤلاء الصغار كان هلاكهم في
انقيادهم رغم أنهم لم ينقادوا خلف ثعلب ماكر أو ذئب جائع أو عدو حاقد بل
كان انقيادهم خلف أمهم التي لن يحنو عليهم مثلها ورغم ذلك كانت هذه
التبعية المطلقة التي كثيراً ما أنجتهم هي مهلكتهم .
ياه .. كم هي حزينة تلك اللحظة التي
التفتت فيها بطتنا لتطمئن على صغارها بعد وصولها لشط الأمان عندما استيقظت
على وقع الكارثة التي اختزلت العدد ستة في لمح البصر إلى واحد فقط ، ربما
أراد الله أن يبقيه لها رحمة بقلبها وشفقة عليها ، فوقفت على طرف تلك
الفتحات مذهولة وغير مصدقة أنها لن ترى فلذات كبدها مرة أخرى ولم تستطع أن
تخفي علامات الحزن التي ظهرت جلية فوق منقارها وكادت الدمعة أن تطفر من
عينيها لولا أن الله لم يهب لها هذه القدرة على ذرف الدموع كما وهبها لنا
كي نذرفها بعد أن نتلذذ بعذابات الآخرين ، فها نحن في مثل هذا الموقف يحرص
واحد منا ــ بكل خسة ونذالة ــ على التقاط هذه الصورة دون أن يتحرك بوازع
من أخلاق أو شفقة أو رحمة لإنقاذ مثل هؤلاء الصغار ثم يقف متباكياً بحرقة
ونحن من ورائه بعد أن فاز بقصب السبق وحقق حلمه بالتقاط هذه الصورة التي
أكسبته شهرة عالمية وهو الذي كان بوسعه التضحية بكل ذلك والسعي لإنقاذهم
جميعاً والوقوف بجانب هذه البطة
المسكينة التي ليس لها من ذنب سوى أن قدراتها العقلية لم تسعفها لتدارك
الخطر الذي كان يحدق بصغارها واعتقدت أن نجاحها نجاحٌ لهم وربما أحسنت
الظن بنا وهي ترى واحداً منا ينظر إليها ، فسرى الاطمئنان إلى قلبها ولم
يدر بخلدها أن هذا الإنسان لا يحمل من الإنسانية سوى دموعاً سيذرفها بعد
أن يحقق النجاح الذي ينشده .
وليتها تعقل حتى
أحدثها عن هذا الإنسان الذي وقف قبل ذلك ينتظر بكاميرته موت ذلك الصبي
الأفريقي الذي أنهكه الجوع والتعب وأعيته عنصرية هذا العالم
السخيف الذي لم يطعمه ولم يسد رمقه بل انتظر حتى موته لينشر صورته الأخيرة
قبل أن يلتهمه ذلك النسر الأفريقي الذي أضناه التعب وهو ينتظر في حسرة
تحوله لجيفة يستلذ بنهشها وتقطيعها ولم يعلم ذلك النسر الجائع بعقله
القاصر أن هذا الطفل لم يبقى منه سوى جلد وعظم بعد أن ذهب اللحم والشحم مع
ذهاب قيم الإنسانية ومع التفاف الجميع حول مبادئ الرأس مالية ، وحصر همِّ
عالمنا المتحضر بتغذية جيوشهم بالأسلحة الفتاكة التي تقتل منا المئات في
لمح البصر حرصاً منهم على أن لا نقف مثل موقف هذا الصبي ، بعد أن توصلت
إحصائياتهم الدقيقة إلى أن إمكانيات كوكبنا لا تفي باحتياجاتنا المعيشية
ولا تلبي مطالبنا المتزايدة بتزايد أعدادنا التي ما كانت إلا بإتباع سنة
نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
قد يبكيني هذا الطفل ولكنني سأبكي
حتماً هذا النسر الذي ليس له من ذنب سوى أنه أفريقي حتى لا يظفر بعد طول
عناء إلا بهذه الوجبة التي بالكاد تسد رمقه في زمنٍ ازداد الفقير فقراً
وازداد الغني غنىً وهو يتحسر على أخ له أمريكي كُرم حتى وضعت صورته شعار
لكل الولايات المتحدة الأمريكية .
وليتك تعقلي يا
بطتي حتى أحدثك عن ذلك الطفل الأفريقي الذي وقف يبكي بجانب أمه بعد أن
أنهكها التعب فلم تقوى على إكمال المسير حتى قتلها الجوع والعطش ، وهو
حائرٌ لا يدري ما يفعل بها حين رآها تسقط على الأرض جثة هامدة ، قد يكون
بكاؤه غضباً منها لأنها لا ترد عليه ولا تسمع لتوسلاته وليس حرقة على
فراقها فربما هو مثلك يا بطتي لا يعقل ولا يعلم أن عليه إكمال المسيرة
بدونها وأن عليه أن يتركها ملقية على قارعة الطريق دون أن يتمكن حتى من
دفنها بل عليه أن يودع حتى أشلائها وعظامها وخرقها البالية التي ستكون
طعاماً غير سائغ للغربان والنسور والضباع التي أنهكها الجوع والعطش .
كم هي محزنة تلك القصة التي قرأناها
ونحن نناظر قسمات وجه ذلك الطفل البريء الذي لم ينسى أن ينظر لمن يقف خلف
عدسات كاميرته كي يلتقط له هذه الصورة دون أن يحاول سد رمق هذه الأم
المسكينة وابنها واختار أن يبني مجده على أشلائها .
وليتك يا بطتي تستطيعين الضحك حتى
أحدثك عن مثل هؤلاء الذين أبكتهم صورتك وهم يشكلون اللجان تلو اللجان
للتأكد من نوع السلاح الذي قتل به إخواننا في غزة وكأن قتلهم حلال متى ما
تم ذلك دون استخدام الأسلحة التي يعتبرونها في عرفهم محرمة دولياً
عذراً يا بطتي فأنا لا أتسلى بمصيبتك
ولا أضحك من موقفك ولكنني أعجب لهؤلاء الذين يبكون فقدك لصغارك ، رغم
علمهم أن حزنك لا يتعدى هذه الثواني البسيطة التي وقفتيها على حافة
الهاوية قبل أن تمضين في حياتك متناسية كل ما حدث ، فطبيعة خلقك تجعلك لا
تعين معنى الحزن ولا تعيشين نفس الهواجس النفسية التي نعيشها ، ومثل تلك
اللحظات التي عشتها تعد نادرة في عالمكم حيث لا يستوقفكم فراق الأحباب ولا
يعصر أفئدتكم ظلم بني ريشكم وليس لكم هم في هذه الحياة سوى الحصول على
الطعام الذي يكفيكم لوجبة واحدة فقط ، وممارسة طقوس الزواج وإنجاب الأبناء
الذين سرعان ما ينتهي دوركم معهم عند تبصيرهم بطريقة عيشهم ومن هم أعداؤهم
قبل أن تفترقوا في دروب هذه الحياة ، أما ما يضحكني بالفعل فهو تجاهل
هؤلاء للأحزان الحقيقية التي تعيشها أمتي وهي تدفن في كل يوم المئات من
أطفالها في مشاهد تبكي حتى الحجر الأصم
ولكنني قد ألتمس لهم عذراً فمشاهد
القتل المروعة وصور الأشلاء البشرية لم تعد نادرة فقد تكفل أعداؤنا بإمداد
هواة التصوير بالآلاف منها سنوياً حتى فقدت قيمتها وأصبح ملتقطها لا يحظى
بأي سبق
فمن يحفل بصور أطفال غزة وهم يخرجون من تحت الأنقاض وقد شوهدت المئات من هذه الصور في فلسطين وفي العراق وفي أفغانستان
وهل سيحظى ملتقط صورة ذلك الطفل الذي يصرخ مستنجداً بعد أن بترت ساقه بأي مزية وقد شاهد العالم
مأساة ذلك الطفل العراقي الذي فقد أمه وأباه وفقد معهما أطرافه الأربعة
وحرم حتى من التألم وهو يرى جسده الغض يحترق فلا يستطيع مد يده لتخفيفه
أليس لي
أن أضحك عندما أتذكر كل هذه المآسي التي نعيشها بجانب مأساة بطة لم ترى
أشلاء صغارها تجمع في صينية ولم ترى أدمغتهم تنساب من ثقب ــ يفتح في
رؤؤسهم ــ بحجم قذيفة الدبابة ولم ترى مئات الصور التي تصور حال تلك الأم
المسكينة التي فقدت طفلها
ألا
تعلمين يا بطتي أنك أصبحتِ محسودة على فطرتك ، حتى غدا الكل منا يتمنى أن
يعيش في عالمك ويتعرض لنفس المخاطر التي تتعرضين لها ، بعد أن تيقن أن كل
ما تتعرضين له لا يساوي معشار ما يحيط بنا من مخاطر وبعد أن فطن إلى أن
حياتنا أصبحت جحيماً لا يطاق بعد أن ترك ذلك الصياد صيدكم وأصبح يتسلى
بصيد صغارنا وشيوخنا وأصبح همه أن يقتلنا بمباركة القانون الدولي محاولاً
الابتعاد عن استخدام أسلحة الإبادة الجماعية أو على الأقل إذا ابتلي بذلك
أن يستتر خلف بعض العبارات المطاطة التي وضعت في هذا القانون لحماية
الصيادين الكبار أو أن يتحسب فلا يُظهر ما يقوم به من اختراقات أمام عدسات
هواة التصوير الانتقائي !!
م\ن