قمت من نومي على غير العادة مفزوعا إثر كوابيس عنيفة صارت
تطاردني كأنها استفردت بي لأنني بقيت وحدي في البيت بعد رحيل زوجتي وابني لأسوان لانتظار مولد ضيفتنا الجديدة .. قمت ألتمس طعاما
فوجدت الثلاجة خاوية إلا من قطعة جبن يتيمة تقبع في طبق بعيد تركتها وذهبت للمطبخ
لأصنع لنفسي قدحا من الشاي اعتدت أن أشربه على معدة فارغة ولطالما حذرني طبيبي من
ذلك إلا أنني لا أسمع له نصيحة لأنه يقولها لي بصيغة الصديق لا بصيغة الطبيب ..
نظرت للساعة النائمة على الحائط ووجدتني تأخرت كثيرا وحانت منى التفاتة لصورتي مع
أسرتي الصغيرة راقدة في سكون على الجدار ..فكرت قليلا في ابتسامتها الراضية في
نظرته المشاغبة وارتديت ملابسي على عجل ونزلت على درجات السلم في أقصي سرعة ..
سلمت على جاري العجوز وهو يسقي شجيرته الواقفة بمفردها في شارعنا الساكت واستقللت
سيارتي وتذكرت أن فراملها ضعيفة منذ يومين ولكني لم أهتم ..
رحت أمارس طقوسي الأثيرة إلى نفسي كل صباح أشغل الكاسيت
مستمتعا بصوت الشيخ أبو الوفا الصعيدي الذي لا تفارقني شرائطه مذ كنت صغيرا ..
ناظرا للقلب الأحمر في أقصى يمين الزجاج الأمامي مداعبا صورة أبني الوحيد ومشغلا
المساحات حيث لا مطر .. وضاغطا على أسناني لأنني دوما أنسى ذلك المطب الاصطناعي ..
قفزت على خاطري صورة أمي فأنا لم أعانق ابتساماتها الوادعة منذ شهور وتذكرت لوعتها
كلما أعددت حقيبتي للسفر .. وسمعت حروفها المشتاقة لرؤيتي في مكالمتها الأخيرة
سحابات تصافح وجه
النهار ونسمات خريفية تأتي من بعيد وألحق بالشارع الذي في نهايته مدرستي .. أنظر
إلى ساعتي وعقاربها تتسابق لتصل إلى السابعة وأذكر نظرة العتاب على وجه المديرة
كلما تأخرت رغم أنني لست معتادا على التأخير ولكني كنت أواجه نظرة عتابها بابتسامة
لا تخلو من جد .
.قارب الشارع على الانتهاء وما جاوزت السرعة كثيرا إلا
وأفاجأ بها أمامي تلقي بنظرة وداع واجفة ..انخلع قلبي وأنا أسمع صرير عجلات سيارتي
.. لكن الله أراد .. نظرت حولي في توتر ومازلت يداي ترتعشان ولا تقويان على
الإمساك بعجلة القيادة وقال من كان يقود سيارته قبالتي : ولا يهمك وحدثتني نظرته
بأن أحدا لم ير الجريمة .. لم أعرف ساعتها ماذا أفعل .. هل أتوقف أم استمر .. اهتزت
أوتار نفسي .. مضرجة هي في دمائها وأنا في
قمة خوفي .. وصلت المدرسة وركنت سيارتي في مكانها المعتاد لكنى لم أفعل المعتاد
وأنزل فأنا لا أتمالك ما بقي من أعصابي ما يسمح لي بأن أتحرك من مكاني .. صرت
قاتلا لروح بريئة في ثواني معدودة ..رمقت بقايا دماءها على العجلة الخلفية و تحجرت
الدمعة في عيني وخرس لساني عاجزا عن الرد عندما قالت لي أحد الزميلات وهي تنزل من
سيارتها :صباح الخير يا مستر .. وكأنني
سمعت : قتلتها ولم تأبه بنظرتها المتوسلة .. يا للخسة!!!
نزلت من السيارة لا أعرف موضعا لخطاي المرتجفة .. دخلت
المدرسة واجما لا أقو على مواجهة أحد بنظراتي كأنهم جميعا رأوني وأنا أقتل ..
انقضى وقت الطابور وأنا على هذا الحال لا أرد على أحد وكانت الحصة الأولي وقفت
الطالبات كما اعتدن لتحية المعلم (القاتل) ووجدت في عيونهن نظرات الاتهام جاهزة
وكأني في قاعة محكمة وكلهن شهود إثبات على ما فعلت وما بقي مني إلا أن اعترف ..
تحشرجت الحروف في حلقي وسألتني إحداهن وقد انحدرت دمعة من عيني ماذا حدث يا أستاذ
؟!!
فاعترفت بأنني قتلت .. نعم قتلتها .. قتلتها ..
قتلت قطة في الشارع !!!!
محمد الاسواني