هجرة حسام حسن بقلم / ابراهيم عيسى
الجمعة, 16-04-2010
تصريح حسام حسن موجع وموقظ ومؤلم وصادم.
قال إنه قرر الهجرة من مصر بعد نهاية بطولة الدوري.
أعرف أنه جاد وصادق في تصريحه ولكنني أظن أن عناده
سينتصر علي تصميمه وحماسه سيغلب إحباطه وسيعود عن قرار الهجرة!
ومع ذلك طبيعي جدا ومنطقي للغاية أن يصدر هذا التصريح
الساخط الغاضب المحبط عن حسام حسن.
وطبيعي أيضا (وجداً) أن يتجاهل ويتغافل الوسط الرياضي
وساحة الإعلام عن هذا التصريح، فالذي يدفع حسام حسن إلي إعلان الهجرة
المفجع والمحزن هو الواقع المصري العام المحيط بحسام حسن (وكل حسام حسن!!)
والذي يمثله الإعلام بعمومه والوسط الرياضي بسوئه ونفاقه وانتهازيته وشروره
وزلنطحيته وهي ساحة محشوة بالأفاقين حتي تكاد تتعثر فيهم كلما مشيت ويندر
من بينهم الأصلي الأصيل بينما يكثر فيهم النهاز الهماز المشاء بنميم وعتل
بعد ذلك زنيم!
أريد أن أنبه وأنوه بأن جمهور الأهلي المنافس لحسام
حسن والثائر ضده والكاره لنجاحه ليس هو من يقف وراء رغبة حسام في الهجرة
فجمهور الأهلي رحنا أو جئنا مجرد جمهور، يحب ويكره ويتعصب وينقلب ويتقلب
ويصعد ويهبط ويشاغب ويهلل ويقدس ويهين ولا أحد يهتم كثيرا بتصرفات الجمهور،
لأنها غير مستقرة ولا مستمرة ثم هي عمومية تصدر عن عوام وبشكل عام فلا
تمسك أحدا متلبسا بها ولا تجد شخصا بعينه أو مجموعة بذاتها مسئولة عنها،
مشاعر الجماهير ليست موضعا للحساب، فكرة القدم في العادة تقوم بإخراج
الغرائز البدائية والفطرية فينا بعدوانيتها وبانفلاتها،
ومن ثم طبيعي أن
تري رجلا كُبَّارة ومحترما للغاية يجلس أمام المباراة فيتحول لعانا شتاما
سبابا وعصبيا مهووسا فإذا انتهت المباراة عاد لطبيعته وارتكن إلي آدميته
المعهودة فيكون قد أفرغ كل الشحنات البدائية في نفسيته وتخلص من السلبيات
المتراكمة في روحه فالكرة وتشجيعها الأحمق العصبي شكل من أشكال التوازن
النفسي للإنسان، فالهادئ يريد أن يتعصب قليلا فيما لا يضر، والعصبي يريد أن
يفرغ شحنته الزائدة فيما لا يؤذي، والمحنتف المهندم يريد أن يتبهدل قليلا
بما يريح تزمته في الاحترام،
والمحب المتسامح يريد أن ينفث بعضا من
الكراهية المكتومة في مباراة كرة تعويضا عن تنفيثها في موضع حساس أو موضوع
جاد، والعالم المشغول بهموم الدنيا وبعلوم أو فلسفة أو طب وجراحة أو قانون
وسياسة يريد أن يرفه عن نفسه بصغائر ينشغل ويتشاغل بها فيتعصب ويخرج عن
وقاره وعن عقلانيته حتي تهدأ الروح من توتراتها وتنسحب عن الصدر ضغوطاته
الكابسة، ثم كل كبير فينا يرتد طفلا ساعة الماتش فيحزن ويفرح وربما يغتم
ويبكي كأنه يُبقي (أو يحافظ ) علي طفولته (أو ما تبقي منها)!.
محصلة هذا أن قرار هجرة حسام حسن المزمع ليس بسبب
الجمهور بل هو رد فعل حساس ويسطع بالكبرياء والكرامة علي وضاعة الوضع في
مصر، الوسط الرياضي بؤرة تتجمع عندها كل موبقات الحياة العامة في البلد
فالفلوس والنفوذ والشهرة تحكم وتتحكم في هذا الوسط وليس خفيا ولا خافيا أنه
مغناطيس لفسدة كثيرين أو لإفساد ناس كانت تبدو محترمة ومتزنة، ثم هو وسط
لا يستند شأن مصر كلها إلي معايير الكفاءة والموهبة والمثابرة والدأب،
بل
هو نموذج حي علي صعود «الفهلوة والنصب واللعب بالثلاث ورقات وبالبيضة
والحجر وأفاعيل الرشوة وأبجني تجدني وظرفني تعرفني والندالة والخديعة»،
وتكاد تكون المفارقة مذهلة في أن الرياضة التي توجب في أصحابها الرقي
وتعلمهم قيم التسامح والرحابة والتسامي والإيثار والتواضع عند النصر
والابتسامة عند الهزيمة هي التي يشهد وسطها في مصر كل سفالات المجتمع
وسِفلته!
طبيعي أن يحدث مع حسام حسن تربص وترصد وكراهية وحرب
معلنة ومستترة مفضوحة وفاضحة من كل الأطراف دونما أي حاجة لأن يتفق هؤلاء
فالحس والسليقة والغريزة يتصرفون عفويا وتلقائيا ويدافعون عن مواضعهم
بالهجوم علي حسام حسن واضطهاده بالمعني واللفظ أو بالقرار والإجراء، حسام
حسن أسطورة في كرة القدم بكل المقاييس وحتي يرث الله الأرض ومن عليها فقد
سجل هذا الرجل اسمه محفورا من نار في المجد، وهناك من يستكثر علي حسام
أسطوريته يريد أن يقتطع منها، يحطم حوافها ويشق صلبها وصلابتها، ثم لا
يريدون له أن يواصل نجاحه الإعجازي بأن يتحول مدربا استثنائيا، زهقوا من
استثنائيته، ينغص عليهم عاديتهم.
تريد أن تعرف لماذا أراد حسام حسن الهجرة؟.. تعال
لتقرأ معي ما كتبه العلامة العظيم جمال حمدان في كتابه الموسوعي المؤسس
شخصية مصر لتفسر ما يجري بالضبط، يقول حمدان: (واحد من أخطر عيوب مصر هو
أنها تسمح للرجل العادي المتوسط بل للرجل الصغير بأكثر مما ينبغي وتفسح له
مكاناً أكبر مما يستحق، الأمر الذي يؤدي - خاصة علي مستوي النظام الحاكم
حيث تحكم التفاهة حينئذ وتسود - إلي الركود والتخلف وأحياناً العجز والفشل
والإحباط. في الوقت نفسه، كأنما لتضيف الإهانة إلي الجرح كما يقال،
ففي حين
يتسع صدر مصر برحابة للرجل الصغير إلي القميء، فإنها علي العكس تضيق أشد
الضيق بالرجل الممتاز، إذ لا مكان له في توسطها ووسطيتها، وأفضل مكان له
خارجها (تذكر نجاح المصريين مؤخراً في المهجر)، فشرط النجاح والبقاء في مصر
أن تكون اتباعياً لا ابتداعياً، تابعاً لا رائداً، محافظاً لا ثورياً،
تقليدياً لا مخالفاً، وموالياً لا معارضاً، ولذلك فإن مصر ليست ولا يمكن أن
تكون ثورية حقاً، وبالتالي غير خالقة ولا قائدة جداً).
شفت ماذا يجري لحسام حسن العظيم من هؤلاء المتوسطين
الصغار القميئين الذين تتسع بهم مصر وتسعد وتقاد وتنقاد!.
لعل النموذج الأبكر تاريخا والأقرب تشابها في كل ما
يحدث مع حسام حسن هو ما جري مع المعلم العظيم حسن شحاتة فقد تحمل هذا الرجل
منذ كان لاعبا يلعب ويخلص فيجني ويحصد غيره من الأفاقين المال والمجد، وكم
من مرة هاجموه سواء من جمهور صفيق اتهمه منذ سنوات طويلة في شرفه؟ أو أن
يدرب ويصعد بالفرق للدوري الممتاز فيسطو علي نجاحه آخرون يأخذون منه منصبه
ويحصلون علي أجر أعلي وأغلي ويتهمونه أنه مدرب درجة تانية، لأن حسن شحاتة
ظل بريئا وواضحا وليس له في الطعن في الظهر ولا النيل في الغيبة ولا خطف
اللقمة من آخرين والزعم أنها شطارة ولا تسليم نفسه لرجال أعمال يبيعون
ويشترون فيه ولا يتنازل عن رأيه ولا يحني ظهره ولا يجري وراء صحافة أو
تليفزيون،
فقط كان يعطي بلا حدود فيطارده المنافقون حتي أخرجوه من بلده
وعاد ليعايش وسطا رياضيا ومحيطا عاما في منتهي التربص والترصد واتهمه الوسط
الكذاب والمخادع بأنه رجل بركة وأنه لا يتقن التدريب وأنه غير مؤهل وحتي
شخصيات رياضية شنيعة استهدفته نبالا ونكالا، وكان الإعلام يعزف ضده تلك
النغمات الشاذة والنشاز كارها له ويدفع جمهور الكرة للاستخفاف به، حتي نجح
المعلم مرة بعد أخري فاستطاع أخيرا جدا وبعد تجاوز الستين من عمره أن يغرس
راية نصره في أرض زراعتها الأولي النفاق وحصادها الأكيد الإفك.
نعود لحسام حسن الذي لم يحطم الدنيا ولا أتي بقطعة من
السماء ولا قدم معجزات في عالم التدريب حتي الآن ولكنه فعل أهم من ذلك كله
وأشد خطرا ووبالا علي الجميع بما يهدد الجميع ويهدم بناء الوسط الرياضي
الهش الذي هو أهون من خيط العنكبوت!
ماذا فعل حسام حسن إذن؟
لقد نجح!
وهل هذا خطر؟ ومتي كان النجاح مزعجا أو ضاغطا علي
أعصابهم؟ ثم هناك من نجح وحصل علي بطولات ولم يزعجهم ولم يحاربوه ولا
يكرهونه أو يضطهدونه، فلماذا يفعلون ذلك مع حسام حسن وهو الذي لم يخرق
الأرض ولم يصل الجبال طولا بنجاحه؟
لا لقد نجح حسام حسن من غير أدوات النجاح المعتادة أو
المقبولة من الوسط الرياضي!!
جاء لهم من حيث لا يحتسبون يلخبط غزلهم ويلعبك خيوطهم
وينجح علي غير طريقة نجاحهم، نجح دون أن يلعب الثلاث ورقات، نجح بالعزيمة
والإرادة وليس بالفهلوة والضحك علي الدقون، نجح بلاعبين ليسوا نجوما ولا
يملك كل واحد فيهم دائرة من الإعلام النصاب الذي يروج له ويبخر فيه ويجعله
صقرا في السماء أو ملاكا في الأرض!
نجح حسام حسن دون أن يلف ويدور ويمسح جوخا ويشكر
وينافق ويمتدح ويمالئ، بل نجح وهو صريح واضح جارح يقول للأعمي إنه أعمي في
عيونه، لا يختار كلامه ولا يزوق مشاعره ولا يلون مواقفه ولا يهادن في
تصرفاته، يتأفف من الملاوعة ويتعفف عن النفاق ويقرف من الكذب وعنيد فيما
يعتبره حقا وعصبي أمام حركات البهلوانات وبتاع شغل لا يطيق الحناجر المؤجرة
في بعض الفضائيات!
طبيعي جدا أنهم يضغطون عليه ويحاصرونه وعازمون علي أن
يطبقوا في زمارة رقبته فيزهق ويهجرهم ويهاجر، ألم يقل لنا دكتور جمال حمدان
في «شخصية مصر»: (إن مصر بيئة طاردة لأبنائها الممتازين تلفظهم بانتظام
وإحكام.. يتكاثر الأقزام علي رأسها ويقفزون علي كتفها تتعثر أقدامهم في
العمالقة وقد تطأهم وطئا، وللإمعات والتافهين طول البقاء!).
له حق حسام حسن!.