فن التصوير الجداري فـي الحضارات القديمة
تعتبر مملكة ماري من أهم الممالك في حضارة سورية القديمة ولعل أعظم مايميز هذه المملكة عن بقية الممالك الأخرى اهتمامها الملفت للنظر في تصوير اللوحات الجدارية فهي من حيث المبدأ سبقت غيرها
من المماليك في هذا الاتجاه فقد حفل القصر الملكي في ماري بمجموعة كبيرة من اللوحات الجدارية التصويرية التي تعود للألف الثالث والثاني قبل الميلاد وهي تعطينا فكرة واضحة عن خصوصية الفن الجداري على الرغم من زوال أجزاء كبيرة من بعض الجداريات بسبب الحروب والعوامل الزمنية ، لقد تطور فن الرسم الجداري لدى العموريين - بشكل كبيرحيث اتسم بالعراقة والنضوج وابتعد كلياً عن المؤثرات الخارجية المباشرة ولعل أهم مايميز قيمه التشكيلية المتطورة (التكوين والتلوين ) وهذا يؤكد على خبرة ناضجة لمفهوم هذا الفن لدى الفنان في ميدان التصوير الجداري الذي انتشر في مصر وبلاد الرافدين فيما بعد .
على الرغم من أن معظم موضوعات هذا الفن اقتصرت على تصوير حياة الملوك وحروبهم وعلاقتهم بالآلهة والطبيعة المحيطة بهم إلا أنه شمل مفردات كثيرة ومتنوعة تتصل بالعقائد والأفكار المتداولةوبعض مظاهر الحياة العامة لذلك العصر ،استخدم الفنان الطين في تحضر الألواح التي أعدها للرسم وطلاها باللون الأبيض ثم رسم عليها بالأصباغ الملونة (الأحمر -البني - الأصفر - الأسود - الأزرق ) وأحاطها باطارات مزخرفة من نفس المادة .
ولعل من أشهر هذه الأواح لوح يمثل تقديم الأضاحي (للآلهة) وآخر يمثل حفل تتويج الملك (زمري ليم) اللوح الأول عبارة عن لوحة جدارية يبدو الملك بملابسه الملكية الموشاة بالزخارف يتقدم موكب الضحية نحو الآلهة ويتبعه خدم يقودون ثوراً لذبحه أمام الآلهة وقد اعتمروا القلنسوات المكورة وتزينوا بالقدائد مهم يرفلون بالملابس المزخرفة .
أما اللوح الثاني تصور مشهداً عاماً للبيئة والحياة يتوسطها مشهدان مؤطران على شكل مستطيلين الأول في الأعلى وفيه يبدو الملك (زمري ليم ) بملابسه الملكية الفاخرة وقد اعتمر قلنسوة كبيرة يتقدم بوقار من الربة (عشتار) التي وقفت منتصبة بكامل ملابسها الحربية وهي تتقلد كنانة السهام وتمسك بيدها اليسرى القوس بينما مدت يدها اليمنى الى الملك تقدم له خاتم (الملك ) وقد وضعت قدمها اليمين فوق صخرة بجانب أسد ضخم الرأس وهو رمز القوة ومن ورائها يقف كاهنان بملابسهما التقليدية ولحيتهما الطويلتين وفي حين وقف خلف الملك أحد أتباعه برداء طويل فضفاض يشارك ملكية الطاعة للربة (عشتار) .
ويبدو واضحاً عناية الفنان البالغة في تصوير الملك والاله من خلال الملابس الأنيقة وزخرفتها .كما أن هناك مشاهد من الطبيعة متمثلة بأشجار النخيل الباسقة التي يتسلقها بعض الأشخاص بالإضافة الى طير في أعلى إحدى الأشجار يهم بالطيران بينما ربضت في الأرض بعض الحيوانات الخرافية المجنحة وهي ترمز للحماية والدفاع والقاء الرعب في قلوب الأعداء وتذكر ببعض النصب في مصر القديمة وبابل .
أما أوراق النخيل فقد عالجها الفنان بأسلوب تزييني جميل بالإضافة إلى الاطار الذي أحاط باللوح على شغل جديلة حلزونية ،لقد اعتمد الفنان على الخط الأسود في رسم الأشكال الأساسية قبل معالجة سطوحها بالألوان كما نلاحظ أن الوجوه التي رسمت في هذه الألواح تبدو في وضعية جانبية في معظمها ،في الحقيقة أن هذه الصور الجدارية تبرز بشكل واضح التطور في التصوير الجداري الذي أعاد الى صيغة المحاكاة والمماثلة للأصل عبر تكوينات واضحة المعالم وغنية بالتفاصيل الدقيقة والزخارف المتنوعة وهي تعطي صورة صادقة لسيطرة المؤثرات الآشورية في تكوين ملامح الوجوه وزخرفة الأزياء وتلوينها على نحو يثير الدهشة والاعجاب كما أنها تنجم عن إدراك عميق للنسب التشريحية والأبعاد الرياضة التي لانجد لها مثيلا في الفنون التي تلت هذه الحقيقة لاسيما في العصرين الهلنستي والروماني ويبدو أن العنصر الزمني لعب دوراً مهماً في إغناء هذه اللوحات بسطوح متنوعة وتضاريس متباينة أكسبتها قيماً تعبيرية جديدة كتلك التي يسعى اليها بعض الفنانين المعاصرين في تحضير لوحاتهم كما في بعض التجارب التشكيلية المبكرة للفنانين (لؤي كيالي ،خالد المز ، نذير نبعة ،وحيد مغاربة وغيرهم ويبدو أن هذه السطوح قد استحوذت على اعجابهم مما دفعهم الى الإفادة من الحيوية التي تضيفها على الأشكال وتمنحها الإحساس بالقدم وهي محاولة تكشف عن حب كبير وواضح لذلك النمط من الفنون.