كلمات تهتك الأستار وتنشر الأسرار
بسم الله الرحمن الرحيم الحمدلله الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم، وعلمه النطق السليم، والصلاة والسلام على خير المرسلين والهادي إلى الصراط المستقيم، وعلى آله وصحبه ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
لقد خلق الله الإنسان في أحسن خلقة وأتمها كما قال تعالى: { لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4]. فإن الله خلقه حياً عالماً قادراً مريداً متكلماً سميعاً بصيراً مدبراً حكيماً، قال الإمام القرطبي: "يدل على أن الإنسان أحسن خلق الله باطناً وظاهراً، جمال هيئة وبديع تركيب الرأس بما فيه، والصدر بما جمعه، والبطن بما حواه، والفرج وما طواه، واليدان وما بطشتا، والرجلان وما احتملتا، ولذلك قالت الفلاسفة إنه العالم الأصغر إذ كل ما في المخلوقات جمع فيه". فما أعظمه من خلق، وما أجلها من نعمة، حري بالإنسان شكرها، والعمل في طاعة خالقه ومصوره. ومن جملة خلقه سبحانه اللسان، فهو المترجم لما حواه القلب، والمبين لما يريد، والمعبر عما في النفس، ومع صغر حجمه تعظم طاعته ومعصيته، إذ لا يستبين الكفر ولا الإيمان إلا بشهادة اللسان، وبقوله تزرع الحسنات والسيئات شراً فشر، لذا أمر المسلم والمسلمة بحفظ لسانهما في كتاب ربهما عز وجل وسنة نبيهما محمد صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك قوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا } [الإسراء: 36] ووصف سبحانه المؤمنين بأنهم يحفظون ألسنتهم عن الكلام الذي لا خير فيه ولا فائدة، رغبة عنه وتنزيهاً لأنفسهم وترفعاً عنه، فال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴿١﴾ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴿٢﴾ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ } [المؤمنون: 1-3]. وفي السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت» [رواه البخاري]. ولأهمية حفظ اللسان جعل النبي صلى الله عليه وسلم جزاءه دخول جنة عرضها السموات والأرض. وقد يكون اللسان سبباً لدخول النار والعياذ بالله فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب» [متفق عليه]. نقل عن ابن وهب رحمه الله: "أن المراد بها التلفظ بالسوء والفحش ما لم يرد بذلك الجحد لأمر الله في الدين". وقال القاضي عياض رحمه الله: "يحتمل أن تكون تلك الكلمة من الخنى والرفث، وأن تكون في التعرض بالمسلم بكبيرة أو بمجون، أو استخفاف بحق النبوة والشريعة وإن لم يعتقد ذلك". قال النووي رحمه الله: "وينبغي لمن أراد النطق بكلمة أو كلام أن يتدبره في نفسه قبل نطقه فإن ظهرت مصلحته تكلم وإلا أمسك". وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبرك برأس الأمر كله وعموده وذروة سنامه». قلت: "بلى يا رسول الله". قال: «رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد» ثم قال: «ألأ أخبرك بملاك ذلك كله». فقلت: "بلى يا نبي الله". فأخذ بلسانه فقال: «كف عليك هذا» فقلت: "يا نبي الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟". فقال: «ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم» [رواه أحمد والترمذي وابن ماجه]. فأكثر خطايا ابن آدم من لسانه، لأنه أكثر أعضائه عملاً، وهو صغير حجمه، عظيم جرمه، فمن أطلق لسانه وأرسله مرخي العنان، سلك به الشيطان في كل ميدان، وساقه إلى شفا جرف هار، إلى أن يضطره إلى البوار ولا ينجو من شر اللسان إلا أن يلجم بلجام الشرع