أصحاب «الشعر الحلمنتيشي» في مصر ظرفاء يبحثون عن الاعتراف
على الرغم مما طرأ
على الروح المصرية، مؤخرا من إحساس بالقتامة، حينا، والتجهم،
أحيانا،فإن الذائقة المصرية لا تفتأ أن تواصل تعاطيها مع تراثها الطويل، والفريد في بابه،
باب التنكيت والتفكه، أمثالا وأشعارا تنبض بالحكمة والنقد اللاذع،
في قالب من السخرية التراجيدية والكوميدية، في آن، وهو ما يتبدي في ذلك الضرب
من الشعر المصري، والمسمي بـ »الشعر الحلمنتيشي«،
والذي بات يحتل في الآونة الأخيرة مساحات أكثر، فأكثر، في الحقل الأدبي.
و»الشعر الحلمنتيشي« هو نمط من الشعر يتجاوز أسلوب السخرية والتساخر، ممن حوله،
إلى مستويات من الفكاهة والتفكه، التي تثير الإضحاك من متلقيه، عبر مفارقات مفاجئة، وتراكيب
غير مألوفة، موظفا إيقاعات الشعر، بفصحاه وعاميته، في جر البسمة، ونيل الظرف،
على غرار أقرانهم السابقين، الذين وجدوا في أساليب »المنولوج« و»السمسمية«
تعبيرا للتفكه، وانتزاع الضحكات.
ويعد كل من عمر عسل، وعبدالحليم مصطفى علام، وشوقي أبوناجي، ومصطفى رجب
وسمير القاضي، وياسر قطامش، من أبرز الكتاب المعاصرين لـ »الشعر الحلمنتيشي«.
ففي قصيدة شهيرة لـ »عمر عسل« تتناول أثر التحولات الاقتصادية والاجتماعية على المصريين،
منذ سبعينات القرن الماضي، والتي صار فيها قليل الحظوة من العلم والمكانة،
شديد الثراء ممتطيا أحدث سيارات »المرسيدس«، والتي وصفها المصريون
بـ »الزلمكة«، لتشابه جزئها الخلفى بمؤخرة »البطة«، تقول بعض أبياتها:
أيها العاقل اللبيب تمهل
لايغرنك ما ترى من ثراء
رب جحش تراه في »الزلمكا«
وعظيم على حمارة عرجاء
بينما لجأ شاعر حلمنتيشي آخر، هو د. مصطفى رجب إلى معارضة قصيدة شهيرة
بالفصحي، هى »أراك عصى الدمع«، للشاعر العربي القديم أبي فراس الحمداني،
والتي يقول في جانب منها:
أراك خلي الجيب شيمتك الفقر
أما للغنى سعى لديك ولا ذكر
بلي »أنا مبسوط« وعندي فكةُ
ولكن دخلي لا يعاش به شهر
وفي قصيدة أخرى للشاعر الطبيب سمير القاضي يشكو الشاعر من عناد والد
حبيبته كي يتزوجها، بسبب قلة رزقه، مفضلا عليه رجلا يعمل بالسمكرة، فيقول:
احب ليلي وليلي تحبني
وإن أبا ليلى عنيد ومفتري
ويرفضني عمي لأني موظف
وأنفق أموالى على حسن مظهري
أما الشاعر المهندس ياسر قطامش فكتب منتقدا الإجراءات الحكومية الخاصة
بـ »تعويم الجنيه المصري«، وذلك في قصيدة بعنوان "حكاية المرحوم جنيه!!"،
يقول في جانب منها:
لقد غرق الجنيه فادركوه
وهيا الآن يا قوم الحقوه
فهب الناس وانتفضوا جميعا
بأطواق النجاة لينقذوه
وقالوا: ما الحكاية؟ قلت: هذا
جنيهكو،»المخستك« اسعفوه
مع »الدولار« و»اليورو«و »ين«
مضى لسباحة »فاستكروده«
وهكذا، فعلى الرغم من أن شعر أولئك الظرفاءيمثل امتدادا ملموسا للتراث الثقافي
والأدبي المصري والعربي، فإن إبداعهم لايزال بعيدا عن الاعتراف الصريح
من جانب المؤسسة الثقافية الرسمية، كما لايزال بعيدا عن متناول
وسائل الإعلام، وكأنه شعر من »سقط المتاع« وهو ليس ـ كذلك ـ بالطبع.
وكان »قطامش« قد أصدر خلال هذه السنة ديوانا له، تحت عنوان »مشاغبات شعرية
على الطريقة القطامشية«، ضمنه »المعارضات« التي نظمها بعض من أقرانه
لبعض قصائده، مثل معارضة شوقي أبوناجي، لقصيدة »قطامش«، التي يقول مطلعها:
كيف ارتضيت بحبها.. ولماذا؟
ما عدت أدرى سر ضغطي هذا
فكتب شوقي يقول:
بهدلت نفسك يا بنيّ لماذا؟!
وغدوت حيرانا تروم ملاذا
هل غررت بك طفلة لعبية
حتى انكفأت ولم تجد إنقاذا؟
ومع ذلك على خلاف سابقيهم، فإن المحدثين من أهل »الشعر الحلمنتيشي«، يعانون التجاهل
، أكان على مستوى الدولة أم من خلال وسائل الإعلام، وهو ما حمل الشاعر ياسر قطامش،
على دعوة الحكومة المصرية لتخصيص جوائز سنوية لهذا اللون من الشعر،
على غرار ما خصصته من جوائر سنوية للعاملين في شؤون الأدب والفكر العلم.
وربما كان هذا التجاهل سببا وراء
عزوف العديد من أولئك الشعراء عن مواصلة كتابة ذلك الشعر، حتى قال أحدهم:
قالوا هجرت الشعر.. قلت: ضرورة
باب الدواعي والرجاء مغلق
جبت البلاد فلا كريم يرتجي
منه النوال ولا مليح يعشق
ولعل تلك المعاناة كانت خلف لجوء شعراء قدماء لتعلم أصول الحرف اليدوية،
كي يتكسبوا منها عيشهم، منذ العصر المملوكي، وإلى يوم الناس هذا، إلى حد
تلقيبهم بحرفهم، مثل الشاعر العطار، والشاعر الوراق والشاعر الخياط، ناهيك عن
الشاعر الطباخ، والشاعر البقال، والشاعر البواب، إلى
جانب الشعراء الموظفين، والشعراء الأطباء والمهندسين.. إلخ، حديثا.
ويذكر أن من التقاليد التي كان يحرص عليها شاعر الفصحى الوزير إبراهيم دسوقي أباظة
عند دعوة هؤلاء الشعراء على غداء في قصره بـ »القاهرة« تارة،
أو في عزبته بإقليم »الشرقية«، تارة أخرى، أن تكون »أطباق العدس« المخصوصة
هى الصنف الرئيسي(!)، وهو ما دعا أحد أولئك الشعراء، وهو الشاعر محمود غنيم للقول:
قالوا لنا: عدس فأفزعني اسمه
لم لا؟ ومنه قد تكون هيكلي
حتى ظفرت لدى الوزير بأكلة
فلعقت من بعد المعالق أنملي
عدس الأباظيين (نسبة إلى عائلة الوزير) شيء آخر غير الذي تعودته في منزلي«.
وفي مناسبة أخرى، وجه الشاعر محمد الأسمر (1900 ـ 1956)،
تحية إلى عيسوي باشا لتكريمه الشعراء قائلا:
يا أديب العظماء
وعظيم الأدباء
أنت من يومك زين
لجميع الأثرياء
وفي منازلة شعرية صاخبة جمعتهما داخل مجلس لشعراء الفكاهة، يوجه
أحمد مخيمر حديثا إلى الشعراء وإلى صديقه العوضي الوكيل، قائلا:
سلام الله يا شعراء مصر
سلام الله ياعوض الوكيل
هدوءا إنني عندي كلام
وعندي ضمنه أمر جليل
فيرد العوضي:
وعندي سحلب حلو مذاقا
وللشعراءعندي »جنزبيل«
ويعود مخيمر قائلا:
بهيم أنت لا تقطع كلامي
ألا تدري الخطورة ياثقيل
أعود إلى كلامي يا رفاقي
عسى ألا يعود لنا دخيل«.
وعندها يدخل النادل إلى رواد المقهى، حاملا
مشروباتهم، دون روادها من الشعراء، فيعلق طاهر أبوفاشا على ذلك قائلا:
مضى الجرسون يا سادة
ولم يحضر لنا »السادة«
ولم نأخذ »سيجارتنا«
من الجرسون »كالعادة«
وسرعان ما يدخل أولئك الشعراء في هجاء وسباب متبادل،
نتيجة خلافاتهم في الرأي، فيقول طه حراز ساخطا:
عليكم لعنة المولى تعالى
إذ ظلت شتائمكم تسيل
إذا لم تعرضوا الموضوع فورا
فإني يا بلاوي مستقيل
فيرد أحدهم:
سلواكؤوس الطلا هل لامست فاها
أني أؤيد ما قد قاله طه
بين هذا القديم وذاك الحديث، فإن شعراء الفكاهة »الحلمنتيشي« المعاصرون يرون أن
حقل أشعارهم، والشعر عموما، لم يعد، كما كان داخل أسوار المنتديات والمقاهي
والصالونات والأسواق، بل ضمن وسائل الإعلام، على ألسنة المغنين والمغنيات، كي تعيد مجده القديم.
مع خالص