الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
ومن ذكر الله -تعالى- تلاوة القرآن، كلام الله -تعالى-، فهو أفضل الذكر وأشرفه، قال الله -تعالى-: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ)(الزمر:23).
- وهو كلام الله -تعالى-، ووصفه الله -تعالى- بصفات جليلة عظيمة، وحقـًا هو كذلك؛ لأنه كلام الله -جلَّ وعلا-.
وصفه الله -تعالى- بأنه نور وبرهان، وموعظة، وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة للمؤمنين، وروح تحيا به النفوس، وكفاية لمن اكتفى به، وأحسن الحديث، وتقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم، ثم تلين جلودهم وقلوبهم لذكر الله، وحبل الله الممدود من السماء إلى الأرض، وإمام يقود إلى حياة السعادة والجنة.
- والقرآن سبب من أسباب محبة الله -تعالى-، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُحِبَّ اللهَ وَرَسُولَهُ فَلْيَقْرَأ فِي الْمُصْحَفِ)(رواه أبو نعيم في الحلية والبيهقي، وحسنه الألباني).
- وشفيع لأصحابه يوم القيامة، قال -صلى الله عليه وسلم-: (اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لأَصْحَابِهِ)(رواه مسلم).
- وبركة للمكان الذي يُتلى فيه، وحياة له، وعصمة من الشيطان، قال -صلى الله عليه وسلم-: (لاَ تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ)(رواه مسلم).
- وسبب عظيم للحسنات، قال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللهِ، فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لاَ أَقُولُ الم حَرْفٌ، وَلكَنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلاَمٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرفٌ)(رواه الترمذي، وصححه الألباني).
- وهو حجة للعبد يوم القيامة يحاجج عن صاحبه الذي عمل به؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: (وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ)(رواه مسلم).
- وظلة له من حر الشمس التي تدنو فوق الرؤوس مقدار ميل يوم القيامة، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: (اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لأَصْحَابِهِ اقْرَءُوا الزَّهْرَاوَيْنِ الْبَقَرَةَ وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ فَإِنَّهُمَا تَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَا اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ وَلاَ تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ)(رواه مسلم).
"قال أهل اللغة: الغمامة والغياية: كل شيء أظل الإنسان فوق رأسه من سحابة وغبرة، وغيرهما، قال العلماء: المراد أن ثوابها يأتي كغمامتين، والفِرقان: قطيعان وجماعتان" انتهى من شرح مسلم للنووي 6/90.
و"الصواف: المصطفة المتضامة، والبطلة: السحرة، والزهروان: المنيران، ومعنى لا يستطيعها البطلة: لا يمكنهم حفظها، وقيل: لا تستطيع النفوذ في قارئها، والله أعلم" تفسير ابن كثير1/34.
- هذا القرآن العظيم أنزله الله -تعالى- في رمضان في ليلة القدر جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا، ثم نزل بعد ذلك مفرقـًا على مدار ثلاث وعشرين سنة كما قال ابن عباس -رضي الله عنهما-، قال الله -تعالى-: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ)(البقرة:185).
وكان جبريل -عليه السلام- يلقى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، كما قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ)(متفق عليه).
وهذا يدل على وظيفة عظيمة للمؤمن في شهر رمضان، وهي: تلاوة كتاب الله -تعالى-، خاصة بالليل، وأن يغتنم فيه الختمات؛ لأنه زمان شريف تضاعف فيه الحسنات.
ولقد ورد عن سلفنا -رضي الله عنهم- في اغتنامهم تلاوة القرآن في شهر رمضان الأعاجيب:
- كان مجاهد -رحمه الله- تلميذ ابن عباس -رضي الله عنهما- يختم ختمة فيما بين المغرب والعشاء في رمضان -وكانوا يؤخرون العشاء إلى أن يمضي ربع الليل-!
- وكان الشافعي -رحمه الله- يختم في رمضان ستين ختمة، ما منها شيء إلا في صلاة!
- وكان أبو حنيفة -رحمه الله- يختم كل يوم ختمة!
- وكان الأسود -وكان من العلماء العباد رحمه الله-، يختم في رمضان في كل ليلتين، وكان يختم في غير رمضان في كل ست ليال!
- وكان الزهري، ومالك، والثوري، وابن الأعرابي -رحمهم الله- إذا جاء رمضان فروا من مجالس الحديث والعلم إلى مجالس القرآن.
- وكان قتادة -رحمه الله- يختم في كل سبع ليال مرة، فإذا جاء رمضان ختم في كل ثلاث ليال مرة، فإذا جاء العشر ختم في كل ليلة مرة!
- وهل هذا ينافي قوله -صلى الله عليه وسلم-: (لاَ يَفْقَهُ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلاَثٍ)(رواه أبو داود، وصححه الألباني)؟؟
قال ابن رجب -رحمه الله-: "وإنما ورد النهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث على المداومة على ذلك، فأما في الأوقات المفضلة: كشهر رمضان خصوصًا في الليالي التي يطلب فيها ليلة القدر، أو الأماكن المفضلة كمكة لمن دخلها من غير أهلها، فيستحب الإكثار فيها من تلاوة القرآن؛ اغتنامًا للزمان والمكان، وهو قول أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة، ويدل عليه عمل غيرهم كما سبق ذكره" انتهى من لطائف المعارف.
وقد وردت آثار عن السلف في فضل ختمة القرآن؛ من ذلك ما رواه الدارمي وقال: حسن عن سعد -رضي الله عنه- قال: "إذا وافق ختم القرآن أول الليل صلت عليه الملائكة حتى يصبح، وإن وافق ختمه آخر الليل صلت عليه الملائكة حتى يمسي".
وروى ابن أبي داود بإسنادين صحيحين عن قتادة التابعي الجليل الإمام صاحب أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "كان أنس -رضي الله عنه- إذا ختم القرآن جمع أهله ودعا".
- وروي بأسانيد صحيحة عن الحكم بن عتيبة التابعي الجليل الإمام قال: "أرسل إليَّ مجاهد وعبادة بن أبي لبابة فقالا: إنا أرسلنا إليك لأنا أردنا أن نختم القرآن، والدعاء يستجاب عند ختم القرآن"، وفي بعض رواياته الصحيحة: "وأنه كان يقال: إن الرحمة تنزل عند خاتمة القرآن".
وروي بإسناده الصحيح عن مجاهد قال: "كانوا يجتمعون عند ختم القرآن يقولون: تنزل الرحمة".
- ويستحب حضور مجلس الختم لمن يقرأ، ولمن لا يحسن القراءة؛ لما رواه الديلمي بسنده عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أنه كان يجعل رجلاً يراقب رجلاً يقرأ القرآن فإذا أراد أن يختم أعلم ابن عباس -رضي الله عنهما- فيشهد ذلك".
- وينبغي أن يُلح في الدعاء، وأن يدعو بالأمور المهمة، والكلمات الجامعة، وأن يكون معظم ذلك وكله في أمور الآخرة، وأمور المسلمين" انتهى بتصرف من الأذكار للنووي ص108-109.
وتلاوة كتاب الله -تعالى- هي قراءته واتباع أحكامه، فالتلاوة لغة هي: الاتباع، فتدخل فيها القراءة؛ لأن القارئ متبع للنص كما يدخل فيها اتباع الأحكام.
وعلى هذا فهي على نوعين:
الأول: تلاوة حكمية، بتصديق أخباره واتباع أحكامه، وفعلاً للمأمورات وتركًا للمنهيات، وهذا هو الغاية الكبرى من إنزال القرآن كما قال الله -تعالى-: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ)(ص:29).
وعلى هذا درج السلف؛ كانوا يتعلمون القرآن ويصدقون به، ويطبقون أحكامه تطبيقـًا إيجابيًا عن عقيدة راسخة.
قال أبو عبد الرحمن السلمي -رحمه الله-: "حدثنا الذين كانوا يقرؤننا القرآن: عثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود -رضي الله عنهما- وغيرهما، أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي -صلى الله عليه وسلم- عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يتعلموها وما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا".
وهذا النوع من التلاوة عليه مدار السعادة في الدنيا والآخرة، كما قال الله -تعالى-: (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى . وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى . قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا . قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى . وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى)(طه:123-127).
والثاني: تلاوته... وقد بيناه، وبينا فضله، واجتهاد السلف فيه.
فاقتدوا -رحمكم الله- بهؤلاء الأخيار، واتبعوا طريقهم تلحقوا بالبررة والأطهار، واغتنموا ساعات الليل والنهار بما يقربكم إلى العزيز الجبار، فإن الأعمار تـُطوى سريعًا، والأوقات تمضي جميعًا، وكأنها ساعة من نهار" انتهى بتصرف من مجالس شهر رمضان لابن عثيمين -رحمه الله- ص3، وص63.
فالله المستعان وعليه التكلان، وهو حسبنا ونعم الوكيل، اللهم اجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك، وخاصتك يا رب العالمين.. آمين.
منقول