الأرض السليب والخطوط المتشابكة:
المواجهة بين العروبة وأعدائها ما زالت مستمرة، فإذا كانت فلسطين هي القضية الأبرز لدى العرب، وإذا كانوا عقدوا العزم على تخليصها من نير الاحتلال الصهيوني، فالواجب القومي العربي يدعوهم إلى الجهاد أيضاً، في سبيل تحرير أرض عابقة بالعروبة، لا تقل أهمية عن أي أرض عربية أخرى، وهي فوق ذلك محتلة من «آخر» لا يمت إلى العرب بصلة، لا من حيث اللغة، ولا من حيث القومية أو الجذور. باستثناء رابط الدين الذي بات يستعمل كغطاء في سبيل تمرير قضايا لا تخدم إلا نوايا التوسع لدى الفرس، وما حدث ويحدث في تلك الأرض السليب.
الأحواز: عروبة تائهة وريحٌ فارسية عاتية
البحث عن هوية:سكان هذه الرقعة الجغرافية العربية هم من العرب الأقحاح، ويطلقون عليها اسم الأحواز، ويعتبرونها جزءاً لا يتجزأ من بلاد العرب. وإذا عدنا إلى أصل كلمة أحواز فهي من حوز وحاز بمعنى الحيازة أو التملك،والعرب يستعملون هذا اللفظ دلالة على التبعية الإدارية والسياسة أو العشائرية بالنسبة للقبائل أو الحواضر أو الإمارات، حيث يقال حوز فلان، فأحواز تميم وأحواز البصرة....
ويقال أيضا إن الاسم أطلق على هذه الرقعة من الأرض،منذ أيام فتح الإسكندر المقدوني.الفرس والعثمانيون أطلقوا اسم عربستان على منطقة الخليج العربي الشمالية،حيث تقطن القبائل العربية ودلتا نهر كارون (قارون) منذ القرن الثالث الميلادي،وعن اسم الأهواز يقول ياقوت الحموي في معجمه: (هو جمع لكلمة هوز وأصلها حوز العربية وذلك لانعدام حرف الحاء في لغة فارس ونطقها بالهاء، فالفرس لفظوا الأهواز بدلاً من الأحواز،وتلقفها العرب منهم بعد ذلك بحكم الكثرة، وربما لسهولة نطق حرف الهاء بدل الحاء). واللافت أن كلمة هوز ليس لها أي أصل في اللغة الفارسية..بعد الفتح الإسلامي،وتحرير المناطق العربية من سلطة الدولة الساسانية، أطلق العرب على القطر اسمه العربي الصحيح: الأحواز،وميزوا حاضرة الأحواز عن عاصمته،فأطلقوا عليها اسم (سوق الأحواز) بيد أن اسم الأهواز ظل شائعا نظراً لسهولة استعماله، فسميت المنطقة في كتب التاريخ ودواوين الشعر وكتب الأدب تارة بالأحواز،وتارة أخرى بالأهواز،بينما بقي اسم أحواز البصرة اسماً للقطر منذ فتحه وتحريره،وإلحاقه بإمارة البصرة بعد تمصيرها عام 639 حتى زوال الدولة العباسية. في أوائل القرن السادس عشر الميلادي،تعرض الوطن العربي للغزو الأجنبي، فغزا الفرس العراق من الشرق وغزاه الأتراك العثمانيون من الشمال،كما غزا البرتغاليون ثم الهولنديون والبريطانيون الخليج،إلا أن أحدا منهم لم يكتب له النجاح بالتجذر هناك،حيث قوبلوا بمقاومة ضارية من جهتي شط العرب وشمال الخليج العربي، وفشلوا أكثر من مرة في احتلال تلك المنطقة، فيما احتلوا المناطق العربية الأخرى. في تلك الفترة المظلمة،المليئة بالصراعات والنزاعات،عاد الفرس والأتراك فأطلقوا من جديد اسم عربستان على الأحواز.
عربستان تسمية حملت في مضامينها اعترافاً من أكبر الدول الاستعمارية حينذاك بقوة جديدة في منطقة الخليج استطاعت صد جيوشها عن أرضها وحطمت أساطيلها.هذه التسمية كانت وصفاً لسلطة عربية فعلية حافظت على استقلالها،ووقفت صامدة أمام أباطرة الفرس والعثمانيين وضد التوسع الاستعماري الغربي،وبرزت كدولة قوية، مستقلة على شواطئ الخليج العربي... لوقت طويل بقي اسم عربستان رمزاً للقوة والاستقلال، في حين استمرت الإمارات والحكومات الأحوازية تعقد المؤتمرات والمعاهدات، وتمنح الامتيازات، حتى بداية التوسع الفارسي نحو الجنوب عام 1870م إلى أن تم الاحتلال العسكري الفارسي لإمارة المحمرة، إحدى أقوى الإمارات الأحوازية عام 1925م فأعلنت حكومة فارس بعد هذا الاحتلال تغييرها لاسم عربستان، الذي أطلقته على هذا القطر العربي، فأبدلته بأسماء أخرى فارسية مثل (خوزستان،بوشهر، وهرمزكان). أما كلمة خوزستان فأطلقها الفرس على الأحواز بعد معركة القادسية، التي كتبت مصير الامبراطورية الفارسية إلى الأبد، بسبب الهزيمة النكراء التي مني بها الجيش الفارسي على يد جيوش الفتح العربية، وما استبدال اسم عربستان باسم خوزستان (ومعناها أرض المواقع والحصون) سوى تصرف عنصري حاقد من قبل الفرس، الذين هدفوا إلى طمس حضارة عربية عريقة نشأت على ضفاف الخليج العربي الشرقية.
ذهب أسود... وتاريخ
لعبت عربستان دوراً بارزاً في تجارة تلك المنطقة، نظراً للموقع المميز الذي تحتله في الخليج العربي، وتسيطر سيطرة كاملة على موانئه،خصوصاً في زمن الدولة العباسية، وفي وقت لم تكن فيه قناة السويس قد شهدت النور بعد،بيد أن كل ذلك لم يكسبها أهمية كالتي اكتسبتها بعد الثورة الصناعية،إذ اتجهت أنظار العالم الحديث إليها، لكونها تمتلك مخزوناً هائلاً من النفط والغاز الطبيعي، الأمر الذي جعلها ميداناً للتنافس الدولي الخطير للحصول على النفط .إضافة إلى ذلك،كان لموقع الأحواز وإشرافها المباشر على سواحل الخليج العربي وجزره،أهمية لا تقل عن المكانة الاقتصادية التي تتمتع بها،فهي كما وصفها العسكريون، تحتل منطقة غاية في الأهمية من الناحية العسكرية.في عربستان الكثير من المدن العريقة التي تمتد جذورها إلى التاريخ القديم،والى جانبها ظهرت مدن جديدة، منها سياسية،ومنها ما استمد وجوده من وجود البترول. ولكن توزع الحضارة والمدن تركز على ضفاف الأنهار. ويقال أن العرب اطلقوا عليها اسم الأحواز لتمييزها عن باقي إقليم عربستان وهي تقع على نهر كارون في أواسط عربستان،بينما تقع إمارة المحمرة وهي اليوم خرمشهر، عند مصب نهر كارون في شط العرب وتبعد عن الأحواز زهاء 120كم، وهي ميناء تجاري مهم ارتبط بالبصرة ارتباطاً اقتصادياً واجتماعياً وثيقاً. شيدها يوسف بن مرداو عام 1812 على آثار مدينة قديمة كانت قائمة قبل ستة قرون، وجعلها وأتباعه سكنا له،وأطلقوا عليها اسم المحمرة،ثم أصبحت عاصمة للإمارة بعد استقلالها.وهناك عبادان وتسمى اليوم آبادان وهي أيضا من مدن عربستان المهمة، تقع إلى جنوب المحمرة، تستمد شهرتها من مينائها الذي يحوي أكبر مصفاة للنفط في الشرق الأوسط. عبادان قديمة وعريقة،زارها رحالة كثيرون،وكتبوا عنها،وقد عدت هذه المدينة ضمن مدن البصرة والعراق. ثم تأتي الحويزة التي أصبحت اليوم (دشت ميشان) وهي أيضاً من المدن العريقة في عربستان،اتخذتها دولة المشعشعين العرب عاصمة أيام المغول 1441،وكانت من قبل تابعة للعراق،وسكانها من القبائل العربية. وهناك (تستر) ويسميها الفرس شوشتر،وهي مشهورة بروعة بساتينها ومياهها وخيراتها،ومدينة السوس الأثرية،ومدينة الفلاحية - شاوكان - اليوم،حسب التسمية الفارسية،فقد كانت مركز أمراء عربستان قبل المحمرة.
هذا غيض من فيض تاريخ لا ينضب،ومن طموح شعب وقف بوجه الفتن التي لا تهدف إلا إلى محوه وتفريس هويته العربية،وجعله تابعاً ذليلاً بعد أن كان سيداً كريماً،فمن هم الأحوازيون، وفي أي تربة نمت جذورهم وترعرعت أغصانهم؟