اللهم أحفظ مصر من كل شر وسائر بلاد المسلمين
تفسير الايات التى ذكرت فيها بلدنا الحبيبة مصر
تفسير بن كثير
وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)
يخبر تعالى بألطافه بيوسف، عليه السلام، أنه قيض له الذي اشتراه من مصر، حتى اعتنى به وأكرمه، وأوصى أهله به، وتوسم فيه الخير والفلاح، فقال لامرأته: ( أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ) وكان الذي اشتراه من مصر عزيزها، وهو الوزير بها. [قال] العوفي، عن ابن عباس: وكان اسمه قطفير.
وقال محمد بن إسحاق: اسمه إطفير بن روحيب، وهو العزيز، وكان على خزائن مصر، وكان الملك يومئذ الريَّان بن الوليد، رجل من العماليق قال: واسم امرأته راعيل بنت رعائيل.
وقال غيره: اسمها زليخا.
وقال محمد بن إسحاق أيضا، عن محمد بن السائب، عن أبي صالح، عن ابن عباس: كان الذي باعه بمصر مالك بن دعر بن بُويب بن عنقا بن مديان بن إبراهيم، فالله أعلم.
وقال أبو إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود أنه قال: أفرس الناس ثلاثة: عزيز مصر حين قال لامرأته: ( أَكْرِمِي مَثْوَاهُ ) والمرأة التي قالت لأبيها [عن موسى] : يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ [القصص: 26] وأبو بكر الصديق حين استخلف عمر بن الخطاب، رضي الله عنهما .
يقول تعالى: وكما أنقذنا يوسف من إخوته، ( وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرْضِ ) يعني: بلاد مصر، ( وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ ) قال مجاهد والسدي: هو تعبير الرؤيا، ( وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ) أي إذا أراد شيئا فلا يرد ولا يمانع ولا يخالف، بل هو الغالب لما سواه.
قال سعيد بن جبير في قوله: ( وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ) أي: فعال لما يشاء.
وقوله: ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) يقول: لا يدرون حكمته في خلقه، وتلطفه لما يريد .
وقوله: ( وَلَمَّا بَلَغَ ) أي: يوسف عليه السلام ( أَشُدَّهُ ) أي: استكمل عقله وتم خلقه. ( آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ) يعني: النبوة، إنه حباه بها بين أولئك الأقوام، ( وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) أي: إنه كان محسنًا في عمله، عاملا بطاعة ربه تعالى.
وقد اختُلِف في مقدار المدة التي بلغ فيها أشده، فقال ابن عباس ومجاهد وقتادة: ثلاث وثلاثون. وعن ابن عباس: بضع وثلاثون. وقال الضحاك: عشرون. وقال الحسن: أربعون سنة. وقال عكرمة: خمس وعشرون سنة. وقال السدي: ثلاثون سنة. وقال سعيد بن جبير: ثمانية عشرة سنة. وقال الإمام مالك، وربيعة، وزيد بن أسلم، والشعبي: الأشد الحلم. وقيل غير ذلك، والله أعلم.
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
يخبر تعالى عن ورود يعقوب، عليه السلام، على يوسف، عليه السلام، وقدومه بلاد مصر، لما كان يوسف قد تقدم إلى إخوته أن يأتوه بأهلهم أجمعين، فتحملوا عن آخرهم وترحلوا من بلاد كنعان قاصدين بلاد مصر، فلما أخبر يوسف، عليه السلام، باقترابهم خرج لتلقيهم، وأمر [الملك] أمراءه وأكابر الناس بالخروج [مع يوسف] لتلقي نبي الله يعقوب، عليه السلام، ويقال: إن الملك خرج أيضا لتلقيه، وهو الأشبه.
وقد أشكل قوله: ( آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ ) على كثير من المفسرين، فقال بعضهم: هذا من المقدم والمؤخر، ومعنى الكلام: ( وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ) وآوى إليه أبويه، ورفعهما على العرش.
وقد رد ابن جرير هذا. وأجاد في ذلك. ثم اختار ما حكاه عن السٌّدِّي: أن يوسف آوى إليه أبويه لما تلقاهما، ثم لما وصلوا باب البلد قال: ( ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ )
وفي هذا نظر أيضا؛ لأن الإيواء إنما يكون في المنـزل، كقوله: آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ وفي الحديث: "من أوى محدثا" وما المانع أن يكون قال لهم بعدما دخلوا عليه وآواهم إليه: ( ادْخُلُوا مِصْرَ ) وضمَّنه: اسكنوا مصر ( إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ) أي: مما كنتم فيه من الجهد والقحط، ويقال -والله أعلم -: إن الله تعالى رفع عن أهل مصر بقية السنين المجدبة ببركة قدوم يعقوب عليهم، كما رفع بقية السنين التي دعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل مكة حين قال: "اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف" ، ثم لما تضرعوا إليه واستشفعوا لديه، وأرسلوا أبا سفيان في ذلك، فدعا لهم، فَرُفِعَ عنهم بقية ذلك ببركة دعائه، عليه السلام .
وقوله: ( آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ ) قال السدي، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: إنما كان أباه وخالته، وكانت أمه قد ماتت قديما.
وقال محمد بن إسحاق وابن جرير: كان أبوه وأمه يعيشان.
قال ابن جرير: ولم يقم دليل على موت أمه، وظاهر القرآن يدل على حياتها. وهذا الذي نصره هو المنصور الذي يدل عليه السياق.
وقوله: ( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ ) قال ابن عباس، ومجاهد، وغير واحد: يعني السرير، أي: أجلسهما معه على سريره.
( وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ) أي: سجد له أبواه وإخوته الباقون، وكانوا أحد عشر رجلا ( وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ ) أي: التي كان قصها على أبيه إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [يوسف: 4]
وقد كان هذا سائغا في شرائعهم إذا سلَّموا على الكبير يسجدون له، ولم يزل هذا جائزًا من لدن آدم إلى شريعة عيسى، عليه السلام، فحرم هذا في هذه الملة، وجُعل السجود مختصا بجناب الرب سبحانه وتعالى.
هذا مضمون قول قتادة وغيره.
وفي الحديث أن معاذا قدم الشام، فوجدهم يسجدون لأساقفتهم، فلما رجع سجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "ما هذا يا معاذ؟" فقال: إني رأيتهم يسجدون لأساقفتهم، وأنت أحق أن يسجد لك يا رسول الله فقال: "لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد، لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها من عِظم حقه عليها" اضغط هنا
وفي حديث آخر: أن سلمان لقي النبي صلى الله عليه وسلم في بعض طُرُق المدينة، وكان سلمان حديث عهد بالإسلام، فسجد للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "لا تسجد لي يا سلمان، واسجد للحي الذي لا يموت" اضغط هنا .
والغرض أن هذا كان جائزا في شريعتهم؛ ولهذا خروا له سُجَّدًا، فعندها قال يوسف: ( يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ) أي: هذا ما آل إليه الأمر، فإن التأويل يطلق على ما يصير إليه الأمر، كما قال تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ [الأعراف: 53] أي: يوم القيامة يأتيهم ما وعدوا من خير وشر.
وقوله: ( قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ) أي: صحيحة صِدْقا، يذكر نعم الله عليه، ( وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ ) أي: البادية.
قال ابن جُرَيْج وغيره: كانوا أهل بادية وماشية. وقال: كانوا يسكنون بالعَربَات من أرض فلسطين، من غور الشام. قال: وبعض يقول: كانوا بالأولاج من ناحية شعب أسفل من حسمَى، وكانوا أصحاب بادية وشاء وإبل.
( مِنْ بَعْدِ أَنْ نـزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ) [ثم قال] ( إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ ) أي: إذا أراد أمرا قيض له أسبابا ويسره وقدره، ( إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ ) بمصالح عباده ( الْحَكِيمُ ) في أفعاله وأقواله، وقضائه وقدره، وما يختاره ويريده.
قال أبو عثمان النهدي، عن سلمان كان بين رؤيا يوسف وتأويلها أربعون سنة.
قال عبد الله بن شداد: وإليها ينتهي أقصى الرؤيا. رواه ابن جرير.
وقال أيضا: حدثنا عمرو بن علي، حدثنا عبد الوهاب الثقفي، حدثنا هشام، عن الحسن قال: كان منذ فارق يوسف يعقوب إلى أن التقيا، ثمانون سنة، لم يفارق في الحزن قلبه، ودموعه تجري على خديه، وما على وجه الأرض عبد أحب إلى الله من يعقوب .
وقال هُشَيْم، عن يونس، عن الحسن: ثلاث وثمانون سنة.
وقال مبارك بن فضالة، عن الحسن: ألقي يوسف في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة، فغاب عن أبيه ثمانين سنة، وعاش بعد ذلك ثلاثا وعشرين سنة، فمات وله عشرون ومائة سنة.
وقال قتادة: كان بينهما خمس وثلاثون سنة.
وقال محمد بن إسحاق: ذُكر -والله أعلم -أن غيبة يوسف عن يعقوب كانت ثماني عشرة سنة -قال: وأهل الكتاب يزعمون أنها كانت أربعين سنة أو نحوها، وأن يعقوب، عليه السلام، بقي مع يوسف بعد أن قدم عليه مصر سبع عشرة سنة، ثم قبضه الله إليه.
وقال أبو إسحاق السَّبِيعي، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود قال: دخل بنو إسرائيل مصر، وهم ثلاثة وستون إنسانا، وخرجوا منها وهم ستمائة ألف وسبعون ألفا.
وقال أبو إسحاق، عن مسروق: دخلوا وهم ثلثمائة وتسعون من بين رجل وامرأة. والله أعلم.
وقال موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القُرَظي، عن عبد الله بن شداد: اجتمع آل يعقوب إلى يوسف بمصر. وهم ستة وثمانون إنسانا، صغيرهم وكبيرهم، وذكرهم وأنثاهم، وخرجوا منها وهم ستمائة ألف ونيف والله اعلم.
وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلا لِلآخِرِينَ (56) .
يقول تعالى مخبرا عن فرعون وتمرده وعتوه وكفره وعناده: أنه جمع قومه، فنادى فيهم متبجحا مفتخرا بملك مصر وتصرفه فيها: ( أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي ) ، قال قتادة قد كانت لهم جنان وأنهار ماء، ( أَفَلا تُبْصِرُونَ ) ؟ أي: أفلا ترون ما أنا فيه من العظمة والملك، يعني: وموسى وأتباعه فقراء ضعفاء. وهذا كقوله تعالى: فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى [النازعات: 23 -25] .
وقوله: ( أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ ) قال السدي: يقول: بل أنا خير من هذا الذي هو مهين. وهكذا قال بعض نحاة البصرة: إن "أم" هاهنا بمعنى "بل". ويؤيد هذا ما حكاه الفراء عن بعض القراء أنه قرأها: "أما أنا خير من هذا الذي هو مهين". قال ابن جرير: ولو صحت هذه القراءة لكان معناها صحيحا واضحا، ولكنها خلاف قراءة الأمصار، فإنهم قرؤوا: ( أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ ) ؟ على الاستفهام.
قلت: وعلى كل تقدير فإنما يعني فرعون -عليه اللعنة -أنه خير من موسى، عليه السلام، وقد كذب في قوله هذا كذبا بينا واضحا، فعليه لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة.
ويعني بقوله: ( مهين ) كما قال سفيان: حقير. وقال قتادة والسدي: يعني: ضعيف. وقال ابن جرير: يعني: لا ملك له ولا سلطان ولا مال.
( وَلا يَكَادُ يُبِينُ ) يعني: لا يكاد يفصح عن كلامه ، فهو عيي حصر .
قال السدي: ( وَلا يَكَادُ يُبِينُ ) أي: لا يكاد يفهم. وقال قتادة، والسدي، وابن جرير: يعني عيي اللسان. وقال سفيان: يعني في لسانه شيء من الجمرة حين وضعها في فيه وهو صغير.
وهذا الذي قاله فرعون -لعنه الله-كذب واختلاق، وإنما حمله على هذا الكفر والعناد، وهو ينظر إلى موسى، عليه السلام، بعين كافرة شقية، وقد كان موسى ، عليه السلام، من الجلالة والعظمة والبهاء في صورة يبهر أبصار ذوي [الأبصار و] الألباب. وقوله: ( مهين ) كذب، بل هو المهين الحقير خِلْقةً وخلقا ودينا. وموسى [عليه السلام] هو الشريف الرئيس الصادق البار الراشد . وقوله: ( وَلا يَكَادُ يُبِينُ ) افتراء أيضا، فإنه وإن كان قد أصاب لسانه في حال صغره شيء من جهة تلك الجمرة، فقد سأل الله، عز وجل، أن يحل عقدة من لسانه ليفقهوا قوله، وقد استجاب الله له في [ذلك في] قوله: قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى [طه: 26]، وبتقدير أن يكون قد بقى شيء لم يسأل إزالته، كما قاله الحسن البصري، وإنما سأل زوال ما يحصل معه الإبلاغ والإفهام، فالأشياء الخلقية التي ليست من فعل العبد لا يعاب بها ولا يذم عليها، وفرعون وإن كان يفهم وله عقل فهو يدري هذا، وإنما أراد الترويج على رعيته، فإنهم كانوا جهلة أغبياء، وهكذا كقوله: ( فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسَاوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ ) أي: وهي ما يجعل في الأيدي من الحلي، قاله ابن عباس وقتادة وغير واحد، ( أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ) أي: يكتنفونه خدمة له ويشهدون بتصديقه، نظر إلى الشكل الظاهر، ولم يفهم السر المعنوي الذي هو أظهر مما نظر إليه، لو كان يعلم؛ ولهذا قال تعالى: ( فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ) أي: استخف عقولهم، فدعاهم إلى الضلالة فاستجابوا له، ( إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ) .
قال الله تعالى: ( فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ) ، قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( آسفونا ) أسخطونا.
وقال الضحاك، عنه: أغضبونا. وهكذا قال ابن عباس أيضا، ومجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومحمد بن كعب القرظي، وقتادة، والسدي، وغيرهم من المفسرين.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عبيد الله ابن أخي ابن وهب، حدثنا عمي، حدثنا ابن لهيعة، عن عقبة بن مسلم التجيبي عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأيت الله عز وجل يعطي العبد ما شاء، وهو مقيم على معاصيه، فإنما ذلك استدراج منه له" ثم تلا ( فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ) اضغط هنا .
وحدثنا أبي، حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحِمَّاني، حدثنا قيس بن الربيع، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب قال: كنت عند عبد الله فذكر عنده موت الفجأة، فقال: تخفيف على المؤمن، وحسرة على الكافر. ثم قرأ: ( فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ ) .
وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: وجدت النقمة مع الغفلة، يعني قوله: ( فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ) .
وقوله: ( فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلا لِلآخِرِينَ ) : قال أبو مجلز: ( سَلَفًا ) لمثل من عمل بعملهم.
وقال هو ومجاهد: ( ومثلا ) أي: عبرة لمن بعدهم والله اعلم.
لا تنسونا فى صالح دعائكم