رأى أحدُ الصالحين رجلًا لا ينقطع عن المعاصى، وقد غمره الله بنعيم ظاهر، وقد تعجَّب الناس من أمره، فقال لهم الرجل الصالح: «لا تعجبوا من أمره، ربٌّ كريمٌ وعبدٌ لئيم! ».فسمع الرجل العاصى هذه الكلمة، فتأثر وبكى، وطلب من الرجل الصالح أن يدعو له بقبول توبته، وغفران ذنوبه.فقال له: يا هذا، أين أنت من فضل الله تعالى فى قوله تعالى: ( إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ) ؟! (هود/90).
هذا موقف يحمل دلالات هادية، فى قمتها بيان لفضل عظيم من أفضال الله على عباده جميعًا؛ ألا وهو قول الله تعالى: ( إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ) (هود/90).والمتأمل لأحوال الناس يرى أنه قد جرت العادة أن يتودد الأدنى إلى الأعلى، فيتودد الفقير إلى الغنى، ويتودد أصحاب الحاجات إلى من بيدهم قضاء هذه الحاجات، وهكذا حال عامة الناس، أما الصالحون فيتوددون إلى الله تعالى بفعل الطاعات، وترك المنكرات.
وأن يتودد العبد إلى خالقه ورازقه؛ فهذا شرع وفرض، أما أن يتودد الله الغنى المتعال القوى العزيز إلى عباده الفقراء، فهذا مِنَّةٌ وفضل، وكما ظهر من الموقف، فقد تحبب الله وتودد إلى عبده بستره، فلم يفضحه بين خلقه وتودد فتاب عليه، وأصلح حاله.
وأما قول الرجل الصالح فى وصف كرم الله تعالى على عبده فى مقابل تمادى المذنب فى تفريطه: «ربٌّ كريم وعبدٌ لئيم»، ففيه مقابلة بين كرم الله البالغ وإعراض العبد وإسرافه على نفسه،وتحريك لمشاعر الإيمان ونوازع الخير داخل العبد الغافل، وفيه أيضًا إيقاظ له من غفلته لإخلاص الناصح لكلمته الحكيمة، نفع الله بها وتاب على العبد العاصى ببركتها .
كما يستفاد من قول الرجل الصالح: أين أنت من فضل الله فى قوله تعالى: (رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ)؟ أن فى ذلك تذكيرًا لكل تائب بأن رحمة الله فى انتظاره، وهو على موعد مع العفو والمغفرة والرحمة، وهذا من ود الله تعالى لعباده، والمتأمل لآيات الله فى كتابه الكريم، يجد أنها فتحت أبواب الأمل والرجاء للتائبين، من ذلك قول الله تعالى
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزمر/53).
وقول الله تعالى: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) (الفرقان/70).
ومن وُدِّ الله سبحانه وتعالى فى يوم القيامة أنهُ يدْنِى عبده إليه؛ كما ورد فى الحديث الصحيح، فيقرره بذنوبه كلها ذنبًا ذنبًا، حتى يظن العبد أنه قد هلك، حينئذ يقول الله تعالى له: « سترتها عليك في الدنيا،وأنا أغفرها لك اليوم» ([1]).
ومن وُدِّ الله سبحانه وتعالى أنه يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل؛ ومن وده سبحانه وتعالى أنه من أعرض وتولى عنه ناداه من قريب، ومن أقبل عليه تائبًا تلقاه من بعيد.
ومن وده سبحانه وتعالى ألا يعجل العقوبة، بل جعل لملك الحسنات سلطانًا على ملك السيئات، فإذا اقترف العبد خطيئة أمر مَلَكُ الحسناتِ مَلَكَ السيئاتِ أن ينتظر، لعل العبد يستغفر أو يتوب، فإن تاب كتبها ملك اليمين حسنة، وإلا كتبها ملك السيئات سيئة واحدة.
ومن وده سبحانه ما ألقى فى قلب الأم والأب من مودة وحنان نحو الأبناء، ومن وده سبحانه أن جعل بين الزوجين مودة ورحمة؛ قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) (الروم/21).
فكل ود بين العباد هو من ود الله سبحانه وتعالى، وهذا من سعة فضل الله ورحمته. وإذا ما تأمل العبد كيف يتودد الله إليه فى مقابل جحود العبد وإسرافه على نفسه، فما من شك أن العبد سيخجل من رحمة الله وسعة فضله، وتتحول مشاعره من المعاصى، ومن مخالفة الله تعالى إلى مبادلة الله ودًّا بودٍّ، وتنشط عند العبد المشاعر الودودة الرحيمة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) موقف من حياتنا المعاصرة.
([1]) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المظالم، باب قول الله تعالى: (أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)، (2309)، ومسلم في صحيحه، كتاب التوبة، باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله، (7191).