تعالوا نواجه الحقيقة
هذه المرة، الصمت ليس حلا، والبطء ليس حكمة، والإصرار على أن يبقى
المخطئون فى أماكنهم لا جدعنة ولا شطارة. فنحن أمام حقيقة لا يصح أن نظلم
المرارة فنصفها بأنها مرة، نحن أمام حقيقة خرائية بكل المقاييس: لدينا
مواطنون مصريون قتلهم جيش بلادهم. لو اتفقنا على طبيعة تلك الحقيقة التى لا
يمكن أن ينطبق عليها علميا أى وصف آخر فى الدنيا، فتعال إذن نخوض فى قرف
التفاصيل من هنا للصبح ولن نخلص، أما إذا
كنت تتخيل أن مواجهة هذه الحقيقة نوع من التسخين، وأن التعتيم على هذه
الحقيقة هو الحل، فإننى أنصحك لوجه الله والوطن أن تخاصم تخيلاتك هذه فورا
وتواجه الحقيقة لكى نبحث سويا عن مخرج.
المشكلة ليست فىّ ولا فيك،
المشكلة فى المجلس العسكرى، باختصار، إذا كان المجلس لا يدرك خطورة النفق
المعتم الذى دخلناه بسبب مذبحة ماسبيرو، فلنا وله ولمصر الله، مما يظهر حتى
ساعة كتابة هذه السطور أنه لا يدرك ذلك بعد، فقد جاء أداؤه ككل الأزمات
السابقة، مرتبكا متعثرا متباطئا ولا أقول مخيبا للآمال، فلم تعد هناك آمال
كثيرة نعلقها عليه، ولم يبق للعقلاء سوى أن يواصلوا التحذير من خطورة
الاصطدام به، لأن ذلك سيعصف بالبلاد ويدخل بها فى نفق سبق لها أن دخلته فى
عام 1954 ولم تخرج منه حتى الآن. كنت فى العادة أرد على من يتهم المجلس
بالتواطؤ بسبب تباطئه، فأقول إننا لسنا مطالبين بالتفتيش فى النوايا وإن
حكم مبارك لم يجعل لنا خيارا آخر غير الثقة فى المجلس، هذه المرة لا أعتقد
أن أحدا جادا يمكن أن يقول إن المجلس متواطئ، فلا يوجد أحد يتواطأ ضد نفسه
بهذا الشكل.
عندما جاءت الأخبار الأولى لما حدث أمام ماسبيرو قلت:
ها هو مارس 1954 يأتينا ولكن فى الخريف، تذكرت خالد محيى الدين، وهو يروى
كيف حكى له عبد الناصر ضاحكا أن إجهاض الديمقراطية وبقاءه فى الحكم كلفه
فقط أربعة آلاف جنيه، كانت الثمن الذى دفعه لتدبير تفجيرات فى مناطق متفرقة
من البلاد لإشاعة الذعر وتخويف الناس من الديمقراطية، فضلا عن تشجيعه
عددًا من الإضرابات العمالية (كان أشهرها إضراب عمال النقل العام، وهذه
مصادفة بحتة بالتأكيد، لكى لا يفهم أحد خطأ)، وكانت النتيجة أن خرجت الجموع
حاشدة تهتف ضد الديمقراطية، بل وتضرب بالأحذية كل من يطالب بالحياة
النيابية، حتى لو كان قامة شامخة كالفقيه القانونى عبد الرازق السنهورى
الذى لم يشفع له أنه ساعد العسكر ليتمكنوا من حكم البلاد. لكن هواجس التآمر
أخذت تتداعى مع توالى قدوم الأخبار المفزعة التى أخذت تحمل أرقاما تتزايد
للقتلى والمصابين، وتحمل صورا مقبضة للطريقة الوحشية التى دهست المدرعات
بها متظاهرين سلميين، لا تدع أحدا يحدثك عمن بدأ بعد إطلاق الرصاص إلا بعد
أن تظهر نتائج قاطعة من لجنة تقصى حقائق ذات مصداقية وصلاحيات كاملة، وحتى
يحدث ذلك دعونا نسأل: أين ذهب يومها ضبط النفس الذى بلعناه بالعافية فى يوم
موقعة الجمل واليوم الذى تلاها، بالمناسبة بلعناه ليس خوفا ولا عجزا ولا
تملقا، لكن إدراكا أننا لا نملك سبيلا آخر غير بلعه وغض البصر عنه، وكلنا
ثقة بأن الله عز وجل لن يضيع حق شهيد أو مصاب وسيقتص له من كل من سفك دمه
أو سكت عن سفك دمه.
عندما بدأت صورة المذبحة تكتمل اتضح أننا لسنا
أمام مؤامرة لإسقاط الديمقراطية، بل أمام غباء منقطع النظير، نحن أمام
قبضة لم تعد قادرة على التحكم فى أصابعها المنفلتة، لا يقل لى أحد إن هناك
نصف عاقل يمكن أن يصدر أوامر بما حدث فى ماسبيرو، وهو يرى أن من أصدروا
أوامر شبيهة يقفون فى الأقفاص ينتظرون القصاص العادل. كل ما فى الأمر أن
قيادة المجلس العسكرى أطلقت العنان للشرطة العسكرية لكى تعيث فى البلاد
قمعا، ووقائع المواقع أكثر من أن نحصيها، وكلنا كتبنا عنها دون أن نتلقى
جوابا كأننا كلاب ضالة تنبح دون جدوى، ولذلك استسهل المجلس الدفع بالشرطة
العسكرية فى موقف ملتهب كهذا، كان من الحكمة أن يبتعد عنه بقواته تماما،
خصوصا وقد رأينا جميعا كيف كانت المظاهرات سلمية تماما لم تقطع حتى طريق
السيارات المارة، قبل أن يتدخل أفراد الشرطة العسكرية بغشوميتهم التى لا
يحاسبون عليها فيشعلوا نارا سيدفع الوطن ثمنها. للأسف لن يعترف أحد من قادة
المجلس بخطأ ما حدث، فهم مصرون على سياسة العناد التى جعلتهم يصرون على
إبقاء عصام شرف فى موقعه، رغم أن كل الذين باركوا اختياره من قبل اعترفوا
وأقروا بخطئهم، وقالوا ذلك لقيادات المجلس العسكرى مرارا وتكرارا، ومع ذلك
كان الرد الذى يسمعونه دائما «مش الثورة اللى جابته»، كأنهم ينفذون كل ما
تطلبه الثورة، ولا يكسرون للثوار طلبا، وهو نفس ما جرى مع كل مطالبات تغيير
الوزير منصور العيسوى، بل وحتى مع محافظ أسوان، وشرحه سيجرى مع وزير
الإعلام أسامة هيكل الذى سيحمل هو وجهازه عار ما جرى من تحريض طائفى.
من الآخر، كان المشير طنطاوى يستطيع أن يتحرك بحسم من اللحظة الأولى،
فيخرج بخطاب يعلن فيه اعتذارا رسميا عما جرى من تجاوزات، شارحا للناس
تفاصيل ما جرى يومها بكل صراحة، ويصدر قرارا بإعفاء قائد الشرطة العسكرية
من منصبه وإحالته للتحقيق، وإقالة عصام شرف ومنصور العيسوى وأسامة هيكل،
ويكلف شخصية وطنية حاسمة توافقية لرئاسة الحكومة فى فترة الانتخابات.
معلوماتى أن المجلس يمتلك بدائل متفقا عليها منذ فترة، بالمناسبة إذا كانت
معلوماتى خاطئة فهذه جريمة لا مصيبة.
ستقول لى: طيب لماذا إذن لم
يفعل المشير ذلك؟ هل هناك دوافع خفية لتأخره فى الحسم يضره شخصيا كما يضر
مصر بأسرها؟ عن نفسى لا أفتش فى النوايا، ولا أحكم إلا بالظاهر، ولذلك رغم
كل شىء ما زلت أحذر من أى سعى للصدام مع المجلس العسكرى فى ظل حالة السيولة
الموجودة فى مصر. لا أظن أن هناك أحدا فى الوطن الآن لا يزال يعتقد أن
المجلس لديه الكفاءة اللازمة لإصلاح حال البلاد وتطييب الجراح ومداواة
العلل، فلن يفعل ذلك إلا حاكم منتخب وحكومة منتخبة، والذى يحب هذه البلاد
عليه أن يطالب المجلس بتحديد وتقديم موعد الانتخابات الرئاسية، لكى يتفرغ
لما هو أهل له، ولكى تبقى مهام محاسبته ومراقبته التى يرفعها البعض بحسن
نية رهنا لاكتمال التجربة الديمقراطية وقدرتها على تغيير حياة الناس لكى
يؤمنوا بها فيتفاعلوا معها ويصنعوا واقعا سياسيا صحيا يوصلنا إلى ما وصلت
إليه الدول المتقدمة أو حتى الدول التى كانت متكحولة مثلنا.
هذه
المرة لن أختم قائلا: ألا هل بلغت اللهم فاشهد، لأن الله يشهد أننى زهقت من
البلاغ، لدرجة أننى قررت أن أبلغ عن نفسى وأكتب هذا المقال.
بلال فضل