عن أنيس منصور.. الذي حاول الانتحار مرتين ولم يعرف شكل "الكولونيا" :
للسير الذاتية ومآثر المشاهير ومناقبهم متابعة خاصة من قِبل القُراء، ولا
يقتصر ذلك على السيرة الذاتية للأدباء فحسب؛ بل إن سِيَر لاعبي الكرة
والسياسيين والفنانين، تكتسي أيضا برونق فريد.. ويُعزى ذلك إلى كون هذه
السِير كالمنارات التي تضيء لك الطريق.
ولما كنا نسعى إلى إلقاء هالة على حياة الكاتب أنيس منصور
-الذي رحل إلى جوار ربه منذ أيام قلائل- فإننا نحاول اليوم أن نستعرض معكم
بعض الأشياء التي تفرّد بها الكاتب في حياته، التي استمرّت لمدة 87 عاما،
صال بها وجال، ورافق الأدباء والفنانين، وأصبح من العلامات البارزة في
تاريخ الأدب الحديث.. ومهما اختلفتَ معه فكريا؛ فإنك لا تستطيع أن تنفي أنه
ارتقى لهامة عالية كانت سببا في ولوج الكثيرين لعالم القراءة والكتابة.
حاول الراحل أنيس منصور الانتحار مرتين؛ الأولى كانت بسبب حصوله على
المركز الأول على الجمهورية في الثانوية العامة! نعم ففي كل مراحل منصور
العمرية لم يتأخر عن الترتيب الأول مرة واحدة، وكان السبب الذي دفعه
للانتحار أنه لم يكن يعني لوالديه شيئا آنذاك، وبمجرد أن شرع في إلقاء نفسه
من على كوبري طلخا، نادته سيدة داعية إياه أن يُلّبي نداء والدته التي
تريده في شيء ما؛ ففعل وأحجم عن المحاولة؛ حيث كان يعشق والدته بشدّة.
المرّة الثانية كانت فلسفية؛ إذ إنّه في حوالي السابعة والعشرين من عمره،
وبعد إبحار بالفلسفة، أدرك أن وجوده في الحياة لا معنى له؛ إذ إن الكون لن
يتأّثر برحيل فرد في حيزه الواسع.. لكن حمدا لله أنه لم يفعل.
حكى
الراحل أن كثيرا من النكت -خاصة السياسي منها- كان هو الذي يطلقها، وكانت
تتسبب في العديد من المشكلات في حياته العملية، وتُوقعه في ورطات عديدة؛
لحدّ فصله من وظيفته ذات مرة، بسبب نكتة عن الرئيس عبد الناصر.
كان أنيس منصور نباتيا صرفا؛ فلم يكن يأكل اللحوم بكل أنواعها، وكان مُقلا
في أكله للأسماك؛ إذ لا يأكل إلا أنواعا محددة من الأسماك، وكان في سفرياته
المتكررة أحيانا يقتصر طعامه على الجبن والزبادي والخيار.
النوم
عند أنيس منصور كان مختلفا؛ فقد حاول كثيرا أن يعرف الساعة بالضبط التي
يستغرق بها في النوم، ولطالما وضع أمامه ساعة ليعرف اللحظة التي تغفل فيها
عينيه؛ لكنّه كان يفشل في ذلك.
قال الراحل أنّه لم يكن طموحا،
وهذا شيء غريب بالقياس إلى ما حققه؛ لكنه أكّد ذلك أكثر من مرة؛ فالمستقبل
كان بالنسبة له شيئا مجهولا لا يقوى أبدا على التخطيط له، ويتركها هكذا
مثلما تأتي، وكيفما يُقدّر له الله.
علاقته بوالدته كانت مضربا
للمثل؛ فكان يحبّها حبا جما، وكانت تُعامله كطفل حتى عندما بلغ مكانة لا
بأس بها، ووصل للواحد والثلاثين من عمره.
لم يكتب أنيس منصور أبدا
بالنهار؛ بل كان يستيقظ ليلا من أجل الكتابة؛ حيث يعدّ الشاي الدافئ، أو
القهوة الساخنة ويشرع في الكتابة، وعادة ما يكون ذلك في الرابعة صباحا..
وغالبا ما تكون الثامنة مساء هي ساعة نومه.
اشتهر الكاتب الكبير
بعداوته للمرأة، وسلك في ذلك مسلك أستاذه عباس العقاد؛ لكن العقاد بالفعل
لم يتزوج؛ لكن أنيس أحب وتزوج، لكنّه لم يُنجب؛ فقد كرّر مرارا أنه لا
يستطيع أن يأتي بأطفال يعذبهم في هذا العالم، وأن طفله لو صرخ بكاء فهذا
كفيل بالقضاء عليه.
القراءة كانت هي حياة أنيس الحقيقية.. حياته
التي لم ينشغل عنها بشيء، قال إنه قرأ أكثر من 70 ألف كتاب، وكان صاحب
ذاكرة حديدية لا تنسى ما قرأ، وكتب عشرات الآلاف من المقالات، وتجاوزت
مؤلفاته المائتين.
وكان منصور رحمه الله ممن يؤمنون بوجود مخلوقات
على كواكب أخرى، وقد دافع عن ذلك في مواضع مختلفة؛ سواء عبر الكتب أو
المقالات، وكان يدلل بمشاهدات ونظريات غربية تتبنى ذلك.
من حكاوي
طفولة أنيس التي آلمته، أنّه في امتحان الرسم بالابتدائية، كان المطلوب في
الامتحان من التلاميذ أن يرسموا زجاجة "كولونيا"؛ فبدأ الجميع في الرسم؛
إلا الطفل أنيس انزوى يبكي؛ فسأل الأستاذ المراقب التلاميذ فأخبروه بأّنه
الأول على صفه؛ فسأله الأستاذ عن علة بكائه؛ فقال إنه لا يعرف شكل هذه
"الكولونيا" لكي يرسمها؛ فضحك الأستاذ، ثمّ سأله هل تعرف "القّلة"، فأجابه
بالإيجاب، فشرح له المدرّس كيف أن "الكولونيا" هي عبارة عن قلة لكنها صغيرة
الحجم، وتتنوّع ألوانها المبهرجة بين الأحمر والأصفر والأخضر.. وظهرت
أمارات الحيرة على وجه التلميذ الصغير حتى بعد الشرح؛ فعاد المدرس ليسأله
عما إذا كان يعرف زجاجة الخل؛ فهتف أنيس: نعم! فقال له الأستاذ: إذن ارسم
زجاجة خل، واجعل لها لونا.
هكذا حاولنا أن نجمع لكم قطرات من بحر
النوادر والمآثر، من سيرة الكاتب الكبير التي ذكرها في حواراته، وفي كتبه
التي ستُبقيه خالدا أبد الدهر وإن فارق الحياة؛ فإن القلم لا يموت وإن مات
صاحبه.