كَيفَ عَالَجَ الإِسْلاَمُ مُشْكِلَةَ التَّحَرُّشِ الجِنْسِي؟
مقال رائع
بقلم : عبد الكريم القلالي
جاء الإسلام بتعاليم سامية، علمت الإنسان احترام أخيه الإنسان وعلمته أن
للآخر حرمة يجب ألا يتعداها، وجعل من مقاصده الكبرى حفظ العرض، وسدت
الشريعة جميع الذرائع والطرق الموصلة إلى هتك الأعراض بالأمر بالحجاب وغض
البصر وتحريم الخلوة بالأجنبية وغير ذلك.
وقد حرم الله سبحانه الأعراض
كما حرم الدماء والأموال، وخطب بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في آخر
حياته وفي موقف من أعظم المواقف. ومما قال في خطبته تلك: 'فإن دماءكم
وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا،
فليبلغ الشاهد الغائب'.
وحين نرى ما يتكرر من الشكاوى بسبب التحرش ندرك
حكمة الإسلام، في تشديد عقوباته على الفاحشة لحماية الإنسان من الظلم
والعدوان; كي تقوم الحياة الإنسانية على أساس الأمن والطمأنينة والأمان؛
كما ندرك خطر الوسائل التي تمجد الفاحشة وتزينها وتطلق الشهوات البهيمية من
عقالها وتسمية ذلك أحيانا 'بالفن الراقي' و'الحرية الشخصية' وأحيانا
'والتقدمية' و'المدنية'.. وكان الأجدر بهاته الأشياء أن تسمى بمسمياتها
الحقيقة كالجريمة والفاحشة.
ويريد الشهوانيون من هذا الصنيع انتشار
السعار الجنسي المحموم بلا رادع ولا وازع، فلا يقر قلب، ولا يسكن عصب، ولا
يطمئن بيت، ولا يسلم عرض، ولا تقوم أسرة، ويتحول الآدميون إلى قطعان من
البهائم، يجهش فيه الذكر على الأنثى بالحيلة أو القوة! ثم يتوج ذلك بالتقدم
والحرية!
وإذا اتفقنا على شناعة ما يرتكبه الرجل بحق المرأة لما يتحرش
بها؛ فإننا لا نعفي المرأة من اللائمة بسبب عوامل الإغواء والإغراء التي
تتزين بها لتوقع الرجل في طريقها عن قصد أو غير قصد؛ وتلتجئ إلى وسائل
محرمة لتهييج السعار الجنسي بشتى الوسائل ودفع الرجل إلى التحرش بها؛
فالأجسام العارية في الطريق، والحركات المثيرة والنظرات الخاطفة، والإشارات
المومئة، وغيرها من الأحوال والأحداث التي يصعب استقصاؤها، بما ذا توحي
للرجل وأي رسالة تريد أن توصلها له، إنها ولاشك رسالة: {هَيْتَ لَكَ}.
ومن الغريب أن نجد بعض من يتصدرن الاحتجاجات من النسوة الزاعمات أنهن
غاضبات من هذا السلوك يتمجدن بالعري الجسدي والتعبير العاطفي؛ فيمارسن
الإغواء والإغراء بمظاهر مخلة وهن بميدان الشكوى.
ولسنا نمنع المرأة من
التجمل أو الزينة لكنا نريد أن تجعل ذلك في مواضعها؛ فكل أنثى مولعة بأن
تكون جميلة، وتهوى الجمال وتحب أن تظهر به للرجال، ولم يكبت الإسلام فيها
هاته الرغبة بل هذبها ونظمها، وأمرها بتجلية ذلك الجمال إلى رجل واحد هو
شريك الحياة وزوجها الحلال تتزين له كيف تشاء ومتى تشاء، وتتغنج معه
بالطريقة التي تريد، وإن لم تجد الزوج فليس لها إلا امتثال:
{وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا} وإن كانت للرجال.
والخطاب الشرعي كما توجه للرجل بغض بصره والوقوف عند حدوده توجه للمرأة
بطلب الكف عن عوامل الغواية التي تستدرج بها الرجل للوقع في حبالها؛ ومن
ذلك ما ورد في قوله سبحانه:
{ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ
فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} 'ويلاحظ بجلاء النهي الخضوع اللين
الذي يثير شهوات الرجال، ويحرك غرائزهم، ويطمع مرضى القلوب ويهيج رغائبهم!
ومن هن اللواتي يحذرهن الله هذا التحذير؛ إنهن أزواج النبي صلى الله عليه
وسلم وأمهات المؤمنين، اللواتي لا يطمع فيهن طامع، ولا يرف عليهن خاطر
مريض، فيما يبدو للعقل أول مرة. وفي أي عهد يكون هذا التحذير؟ في عهد النبي
صلى الله عليه وسلم وعهد الصفوة المختارة من البشرية في جميع الأعصار،
ولكن الله الذي خلق الرجال والنساء يعلم أن في صوت المرأة حين تخضع بالقول،
وتترقق في اللفظ، ما يثير الطمع في القلوب، ويهيج الفتنة. وأن القلوب
المريضة التي تثار وتطمع موجودة في كل عهد، وفي كل بيئة، وتجاه كل امرأة،
ولو كانت هي زوج النبي الكريم، وأم المؤمنين. وأنه لا طهارة من الدنس، ولا
تخلص من الرجس، حتى تمتنع الأسباب المثيرة من الأساس.
فكيف بهذا
المجتمع الذي نعيش اليوم فيه. في عصرنا المريض الدنس الهابط، الذي تهيج فيه
الفتن وتثور فيه الشهوات، وترف فيه الأطماع؟ كيف بنا في هذا الجو الذي كل
شيء فيه يثير الفتنة، ويهيج الشهوة وينبه الغريزة، ويوقظ السعار الجنسي
المحموم؟ كيف بنا في هذا المجتمع، في هذا العصر، في هذا الجو، ونساء يتخنثن
في نبراتهن، ويتميعن في أصواتهن، ويجمعن كل فتنة الأنثى، وكل هتاف الجنس،
وكل سعار الشهوة؛ ثم يطلقنه في نبرات ونغمات؟! وأين هن من الطهارة؟ وكيف
يمكن أن يرف الطهر في هذا الجو الملوث. وهن بذواتهن وحركاتهن وأصواتهن ذلك
الرجس الذي يريد الله أن يذهبه عن عباده المختارين؟!
{وَقُلْنَ قَوْلًا
مَعْرُوفًا} نهاهن من قبل عن النبرة اللينة واللهجة الخاضعة؛ وأمرهن في
هذه أن يكون حديثهن في أمور معروفة غير منكرة؛ فإن موضوع الحديث قد يطمع
مثل لهجة الحديث؛ فلا ينبغي أن يكون بين المرأة والرجل الغريب لحن ولا
إيماء، ولا هذر ولا هزل، ولا دعابة ولا مزاح، كي لا يكون مدخلا إلى شيء آخر
وراءه من قريب أو من بعيد.
والله سبحانه الخالق العليم بخلقه وطبيعة
تكوينهم هو الذي يقول هذا الكلام لأمهات المؤمنين الطاهرات؛ كي يراعينه في
خطاب أهل زمانهن خير الأزمنة على الإطلاق!'.
ومن ثم يستحيل ضبط هاته
التحرشات وتطهير المجتمع منها إلا بعقيدة تمسك بالزمام من الذكر والأنثى،
واستحضار لرقابة الله في الحركة والسكون واللباس، وسلطة ردعية تأخذ
المتحرشات والمتحرشين بالتأديب والعقوبة، وترفع كلا الجنسين من درك البهيمة
إلى مقام الإنسان.