تعدد التنوع لا تعدد الصراع.. «المجتمع والسلطة والأحزاب»بقلم - د. عبد المنعم أبو الفتوح التنوع والتعددية مظهر من أهم وأوضح
مظاهر الكون والطبيعة يدركه كل الناس فى كل العصور.. والحالة الإنسانية فى
حد ذاتها برهان على هذا التنوع سواء فى اختلاف اللون أو اللسان أو حتى
التنوع الظاهر فى العادات والطباع.. والتعددية مبدأ وسنة أزلية فطر الله
عليها جميع المخلوقات.. فما كان الناس أبداً نمطاً واحداً أو قالباً فرداً،
وإنما كانوا ولا يزالون مختلفين، تطبيقاً لقوله سبحانه وتعالى «ولو شاء
ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين..الآية 117 هود».
والتعددية تُوجب التنوع لا توجب الصراع،
وتضمن للإنسان الحق والمسؤولية وتكافؤ الفرص فى كل الحقوق، فالقيمة الكبرى
للتعدد هى التنوع وليس الصراع والاستقطاب. وهى الإضافة وليس الإقصاء..
وكلاهما من أقوى ضمانات التعايش الصحى والسليم فى ضوء الاختلاف الأخلاقى
الحضارى.
وأهم أشكال التعددية فى مجتمعنا هى التعددية الدينية والسياسية،
ولا نكاد نشعر بالتعددية المذهبية لدينا والحمد لله.
التعددية الدينية تعنى الاعتراف بوجود تنوع
فى الانتماء الدينى فى مجتمع واحد مع احترام هذا التنوع وقبول ما يترتب
عليه من اختلاف وإيجاد صيغ ملائمة للتعبير عن ذلك فى إطار مناسب للجميع.
كما أن مفهوم التعددية الدينية يتضمن الإقرار بمبدأ أن أحداً لا يستطيع ولا
يملك نفى أحد، وبمبدأ المساواة فى ظل سيادة القانون وحقوق المواطنة التامة
والكاملة، ولعل الحضارة الإسلامية كانت مضرب الأمثال على مدار التاريخ
الإنسانى كله فى استيعاب واحترام التعددية الدينية.
التعددية السياسية هى مشروعية تعدد القوى
والآراء السياسية وحقها فى التعبير عن نفسها وحقها فى المشاركة فى التأثير
على القرار السياسى وضمان وحماية مصالحها.. وهى بذلك تعنى الاعتراف بوجود
تنوع فى مجتمع ما بفعل وجود عدة دوائر انتماء فيه ضمن هويته الواحدة
واحترام هذا التنوع وقبول ما يترتب عليه من خلاف.
تعدد الآراء والأفكار والرؤى وتنوعها
وثراؤها حالة إيجابية رائعة يعرفها العقلاء والسياسيون النابهون وقادة
الرأى فى مجتمعاتهم. ولعلنا نرى فى تاريخ الحضارة الإسلامية أن فترات
التوهج الفكرى والعلمى والاستقرار الاجتماعى كانت مع سيادة «التنوع» فى
الأفكار والآراء. والعكس صحيح.. فكانت فترات الانتكاس والتأخر مع الضيق
بالآخر والتضييق عليه.. سواء كان هذا الآخر دينياً أم سياسيا. أم مذهبياً
فى بعض الفترات.
ومن جميل ما يذكره العلماء والمفكرون أن
«الواحدية» خاصة بالله سبحانه وتعالى «قل هو الله أحد».. ونفاها سبحانه عن
الخلق كلهم أجمعين «ومن كل شىء خلقنا زوجين».
ستظل المجتمعات التى تعيش وتتعايش فى إطار
التعدد والتنوع وتدير هذا التنوع فى إطار المواطنة والمساواة.. هى الأكثر
حيوية وإنتاجا وتطورا، بعكس المجتمعات المغلقة التى لا تسع ولا تسمح للتنوع
والتعدد بأن يأخذا حقهما فى تحريك مسارات الحياة ودفعها فى اتجاه التطور
والرقى.
وأى ادعاء لأفضلية بأى شكل من الأشكال
وترتيب بناء عليها.. ليس أكثر من مغالطة واضحة لحقائق الخلق وإرادة الخالق
وأبجديات الدين، وهى ادعاءات لا تعكس إلا محاولة رديئة للاستئثار بالسلطة
والنفوذ والحصول على مزايا مادية ومعنوية تحت لافتات الخداع والتضليل. لن
ننجو من مربع «الصراع» المقيت- الذى أرى علاماته وأتألم له كثيرا- ولن
تتوقف عملية الدوران فى الدوائر المغلقة والمفتوحة على الكراهية والتحريض،
إلا بغرس مفهوم التسامح والتنوع فى عقولنا وقلوبنا. والتسامح الذى أقصده لا
يعنى اللامبالاة ولا المسايرة والمجاملة.. إنما هو تقدير لما ينطوى عليه
التعدد والتنوع من ثراء والوقوف على ما تحمله طرق الفهم والتعبير البشرية
من دلالات التميز والتفرد الإنسانى والتى هى من أعظم نعم الله على بنى
البشر.
ومن أجل الخروج من تلك الدوامة يجب على
العقلاء من جميع الأطراف السياسية، العمل على تجنيب البلاد المستقبل القاتم
الذى ينتجه الخطاب الإقصائى والتحريضى المسيطر على الأداء السياسى
والاجتماعى للأطراف السياسية المختلفة- ولا أستثنى أحداً- وتبنى خطاب عاقل
قائم على نبذ الإقصاء ويعزز روح المواطنة والمساواة، والعدالة وسيادة
القانون، وهى مفاهيم دون تطبيقها والعمل بها وتحويلها لسلوك عام يؤمن به
جميع الفاعلين السياسيين لن تقوم لأحد قائمة دونها.
وحول هذه المعانى أود أن أشير إلى عدة نقاط:
■ ثمة تصورات قائمة على ضرورة أن تتحد
قناعات الناس وأفكارهم وآراؤهم، حتى يتسنى لهم صناعة التقدم أو الانخراط فى
مشروع التطور والنهضة فى مجالات الحياة المختلفة.. وهى تصورات وآراء لا
تحبذ التنوع والتعدد والاختلاف وقد تدفع به فى مجال الصراع. وينطبق هذا
بدرجة كبيرة على أصحاب الأيديولوجيات.. وهذا مؤشر خطر للحركة باتجاه
المستقبل، ويجب تصحيحه فهما وتطبيقا.. وإن كنت أرى أن الأجيال الجديدة وإن
احتفظت بنقائها الفكرى والأيديولوجى إلا أنهم يميلون إلى فكرة التكامل فى
إطار التنوع وهو مما يسعد ويبشر.
■ التماسك الوطنى والاجتماعى لا يساوى
بالضرورة أن تكون كل قناعاتنا ومواقفنا واحدة ومتطابقة فى كل شىء.. ومن
يبحث عن الوحدة بهذا المعنى فإما أنه سيصطدم بحقائق التنوع الراسخة فى
الوجود الاجتماعى والإنسانى أو أنه سيمارس القهر والإكراه من أجل تحقيق
مفهومه الذاتى للوحدة. وثبت بالقطع واليقين أن استخدام وسائل القهر
والإكراه فى كل التجارب الإنسانية لا تفضى أبداً إلى الوحدة والتماسك
الاجتماعى والوطنى والفكرى.. بل هى مما يؤسس لانقسامات عميقة بطول وعرض
المجتمع.
■ ضمان حق الاختلاف بكل مستوياته هو الخطوة
الأولى فى بناء مشروع الوحدة الاجتماعية والسياسية على أسس صلبة ومستقرة
ودون ذلك ستبقى وحدة الوطن مجرد شعار.. الكل يدعيه والكل يلغيه.
■ لا يمكن أن نصون قيمة الاختلاف والتنوع
دون تعميق قيمة الحرية على المستوى الاجتماعى والسياسى والفكرى، وأصل
الموضوع هو أن البشر بنسبيتهم وقصورهم لا يمكنهم أن يدركوا كل الحقائق
والمقاصد وإنما هم يجتهدون ويعملون العقل والإدراك والفهم ويختلفون.. وهذا
فى حد ذاته مما يعكس جمال الإنسانية وروعة الإنسان.. مخلوق الله المختار.
الذى جعل الله تكليفه قائم على «حرية الإرادة والاختيار».
■ لا يشكل الاختلاف نقصاً أو عيباً يحول دون
تحقيق الأهداف الكبرى للوطن.. وإجماع الأمة تاريخياً حول القضايا الفكرية
أو السياسية الكبرى لم يكن وليد الرأى الواحد وإنما تحقق الإجماع عن طريق
الاختلاف والتنوع، الذى أثرى الواقع وجعل الآراء المتعددة تتفاعل مع بعضها
وتتراكم لتشكل أساساً متيناً للحركة والتفاهم.
■ الإسلام بكل نظمه وتشريعاته ضمن حق
الاختلاف واعتبره من حقائق الحياة وجعل فضيلة «التسامح والعفو» سبيل
التعامل بين المختلفين.. وبديهى أن الاختلاف لا يعنى التشريع للفوضى أو
الفردية الضيقة وإنما يعنى أن تمارس حريتك كمواطن على مستوى الفكر والرأى
والتعبير وتتعامل مع الآخرين وفق نهج التسامح والعفو.
■ حق الاختلاف لا يمكن صيانته وإدارته فى
الإطار الاجتماعى والسياسى والفكرى إلا بسيادة القانون، الذى يتعامل مع
الجميع على قدم المساواة دون تحيز لأحد أو تغطية لتصرفات طرف على حساب
طرف.. فالعلاقة بين حق الاختلاف وسيادة القانون علاقة عميقة.. لأنها أولا
تضمن عدم تحول الاختلاف إلى صراع.. وثانياً تضمن استمرار هذا الاختلاف الذى
هو ضرورة من ضرورات الحياة سبراً لأغوارها واكتشافا لمكوناتها.
■ إذا كانت الحزبية هى وعاء الممارسة
السياسية.. وإذا كانت السياسة هى المقاربة فى إطار الممكن واللقاء فى منتصف
الطريق.. فإن الواجب الوطنى يحتم على الأحزاب أن تجعل ثقافة التعدد
والتنوع قاعدة التأسيس للعمل الحزبى والسياسى، سواء على مستوى برامجها
التدريبية والتثقيفية.. أو على مستوى الممارسة العملية فى إطار ترسيخ
المبدأ والمعنى. فعظة الفعل أشد وأوقع من عظة القول.
■ الأقدر والأقوى هو الأكثر تسامحاً وتفهماً
لمعنى التنوع والاختلاف.. والسلطة التى تمتلك أدوات الحكم وأجهزة الإدارة
هى أوجب الأطراف على سلوك هذا المسلك، فهى أولاً تكتسب بذلك رؤى وأفكاراً
تفسح أمامها مجالاً واسعاً للحركة والقيادة والتوجيه. وهى ثانياً ترسخ
ممارسة الاختلاف فى إطار التنوع والتعدد، مما- يجعلها- بالتراكم صفة أصيلة
فى العلاقة بين الحاكم والمحكوم.
■ من الطبيعى أن يستند الإنسان على المستوى
المعرفى إلى منظومة فكرية، ومن الطبيعى أن يبحث الإنسان عمن يتشابه معه فى
فكرة وانتمائه لكى يلتقى معه ويحول هذا التشابه إلى شبكة مصالح اجتماعية
وسياسية تديم العلاقة وتطورها، وأنا أنظر من هذه الزاوية المعرفية إلى
حقيقة الانتماء الفكرى والاجتماعى نظرة طبيعية وصحية.. ولكن هذه الظاهرة
الصحية والطبيعية قد تتحول إلى ظاهرة سلبية ومرضية.. حينما يتحول الانتماء
إلى تعصب، بحيث أرى شرار قومى أفضل من خيار قوم آخرين.. وهذا خطأ كبير يحيد
بالإنسان عن الحق ويجعله جهولاً ظلوماً والعياذ بالله. التصنيف الفكرى أو
الاجتماعى فى حدوده الطبيعية ظاهرة صحية ومستساغة إنسانياً ومعرفياً.. ولكن
هذه الظاهرة تتحول إلى ظاهرة سلبية حين يتصف أهل هذا الانتماء بالانغلاق
والانكفاء، بحيث لا يتسع عقل الإنسان إلا لمحيطه الخاص وينبذ كل المساحات
المشتركة التى تجمعه مع أبناء والوطن.
لا خيار أمامنا للرقى والتقدم والنهوض إلا
ببناء وعى اجتماعى وطنى جديد يستوعب معنى التعدد والتنوع الإنسانى وينميه
ويقويه.. والطريق إلى ذلك هو التأسيس الصلب لحقيقة المواطنة المتساوية فى
الحقوق والواجبات، المتظللة بأخلاق وثقافة التعدد والتنوع، بحيث يتحول هذا
التأسيس (بحمولته) الدستورية والقانونية والحقوقية إلى مرجعية عليا لكل
مواطن.