هل هبط نيل آرمسترونغ على سطح القمر؟بقلم - الحبيب على الجفرى
الحمد لله
سمعت في طفولتي كبار السن يتداولون خبراً عن فتوى نُسبت إلى أحد
المفتين في الجزيرة العربية بأن الأرض ليست كروية وأنها لا تدور حول الشمس،
وأن ما نقلته وسائل الإعلام آنذاك عن هبوط نيل آرمسترونغ على سطح القمر
مجرد كذبة أمريكية، وأن الصور المنقولة كانت مزيفة، وكان الحديث محل تندر
وتفكّه..
وأصبح ذكرُ هذه الفتوى في السنة التي توفي فيها نيل آرمسترونغ محلَّ غضبٍ لفريق وسُخْطٍ لآخر..
إذ لم يتحمّل الفريق الغاضب من الذين عُرفوا بتبجيلهم لذلك المفتي تصوّرَ انتقاده ولم يخطر ببالهم تقبُّل نسبة الخطأ إليه..
وذلك على الرغم من اعتقادهم بأنه غير معصوم وانتقادهم اللاذع لمخالفيهم بأنهم {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله} ..
فاشتد غضبهم مِن تطاول (السفهاء) على أصحاب الفضيلة العلماء
والمشايخ والدعاة، وتكررت نماذج تشويه المشايخ كالتي في فيلم (الزوجة
الثانية) لكن بصورة أشد ضراوة، وأكثر نكاية، وأخفّ ظلاً..
وقد أرعد إعلامهم وأبرق، ثم أمطر سباباً ولعناً وقذفاً وتكفيراً
وتخويناً على الإعلام الفاسد الـمُنحل الذي ينشر المجون والفساد والرذيلة،
ويتطاول على أهل الدين وعلماء الشرع وأصحاب الفضيلة..
وقد فاض كيلهم من تظاهر الفاسدين بالفسق والفجور، وبلغ سيلهم الزبى من جرأة الجهلة بدين الله..
ثم قرأت لمن ينفي صحة نسبة الفتوى إلى ذلك المفتي، رحمه الله،
ويستشهد بفتوى له تؤكد كروية الأرض، ومقال ينفي فيه القول باستحالة وصول
الناس إلى القمر ..
وبعد بحث تبين أنه بالفعل لم ينفِِ كروية الأرض لكنه نفى أنها تدور
حول الشمس لظنه أن ذلك يقتضي ثبات الشمس واستدل على صحة هذا النفي بما توهم
أنه دليل من القرآن الكريم! .. ولم ينفِ إمكانية هبوط الإنسان على سطح
القمر لكنه شكك في صحة حصول ذلك ..
وبالطبع رفض كبار العلماء هذه الفتوى ورد عليها الإمام الشعراوي
رداً جميلاً ونسبها د. مصطفى محمود إلى العقل المُتحجّر، واعتبر الشيخ محمد
الغزالي أمثالها من الفقه الـمُتصحّر..
ثم انتشرت شائعة إعلامية تشكك في وصول نيل آرمسترونغ إلى القمر
وتحاول إثبات أن ذلك الخبر كان مجرد مسرحية أراد بها الأمريكيون اثبات
تفوقهم على الروس ..
فهلّل هذا الفريق وكبّر.. وصرخ في وجوه المنتقدين: ألم يقل لكم الشيخ بأن هذا الأمر مشكوك فيه؟
وهمس بعضهم قائلاً: لن يصدق هؤلاء بأن الأرض لا تدور حول الشمس إلا عندما تأتيهم وكالة أنباء كافرة باكتشاف يؤكد أنها ثابتة !
وإنّ تذكر هذه الفتوى اليوم صار محل سُخطٍ عند الفريق الآخر وهم فئة
متسعة من الشباب لم تعد تحتمل تكرر عقلية محاكم التفتيش التي أسسها البابا
غرينوار التاسع..
فأحرقَتْ برونو وجان هوس وحاكمت غاليليو واضطرت كوبرنيكوس إلى أن
يُخفي نظريته عن دوران الأرض حول الشمس إلى يوم وفاته، وكل ذلك ارتُكب باسم
الدين..
وقد ملّت هذه الفئة من السكوت عن تخلف الأمة عن ركب الحضارة
الإنسانية وبقاء دولنا تحت وطأة التبعية والعيلة، وإهدار طاقات الشباب في
نقاشات لا تغني ولا تُسمن من جوع..
ولم تعد تحتمل أن يُسلّط على الرقاب سيف الدين أو يلهِب الظهورَ
سوطُه في كل تحرك يتحركونه وفي كل مجال يخوضونه من المجالات العلمية
التجريبية أو الاقتصاديةً أو السياسية..
فغدت رافضة لتسلّط الآخرين باسم الدين على حياتهم وتقييدهم لتحركاتهم وعدّهم لأنفاسهم.. ومحاسبتهم على أحلامهم..
وهذه الفئة هي التي لم تعد تستسيغ الحديث عن الإعجاز العلمي للقرآن
بعد اكتشاف أخطاء كثيرة لعدد ممن تسابقوا في مضمار بطولة من يأتي بإعجاز
جديد ولو باعتصار حروف كلمات آية كريمة من القرآن ولَيِّ عنقها ليستخرج
(إعجازاً علمياً) منها..
والتي اشمأزت من فوائد مرابحة البنوك الإسلامية التي صارت أكثر
إيغالاً في امتصاص محدودي الدخل من البنوك الربوية، وأسوأ حيلاً في
تعاملاتها..
والتي لم تعد تحترم الحديث عن أسلمة المعرفة بعد نماذج الإدارة
الإسلامية، والقيادة الإسلامية، التي لم تختلف كثيراً عن الإدارة
الرأسمالية والقيادة الانتهازية سوى بإقحام نصوص الآيات الكريمة والأحاديث
الشريفة عليها لإعطائها ختم الأسلمة على غرار (حلال فود) دون أي جهد يُذكر
في مراجعة منطلقات تعاملها المنبثقة من رحم مرحلة ما بعد الحداثة..
وتأملت هذه الحالة من الانقسام والتفرق بين أصحاب الوطن الواحد بل
أبناء الأب الواحد أحياناً.. فوجدت أن (الدين) هو قطب رحاها (الظاهر)
للأعين..
فتساءلت متعجباً: كيف يكون أساس هذا التنافر هو الدين؟
الدين الذي جاء ليجمع أشتاتهم المتفرقة؟ ويفتح عين بصائرهم المغلقة؟
ويطلق عقال عقولهم العالقة؟ وينتشل سفينة نفوسهم التي أصبحت في أوحال
المطامع غارقة؟
وهل جاء الدين مناهضاً لعقل الإنسان وانتصاره لحريته؟
وهل ينتصر الإنسان لعقله بزعم حريته في إيذاء إنسان آخر بإهانة مقدساته، وانتهاك عِفّة سمعه وبصره؟
وعبثا حاولت أن أجد ما يبرر هذا التضاد الـمُتوهم بين نصرة الدين وتعظيم العقل والحرية..
وبحثت في النصوص الحاكمة لقواعد هذا الدين فوجدت أن مناط التكليف
الشرعي يقوم على العقل والحرية؛ فالمجنون يسقط عنه التكليف والـمُكرَه تسقط
عنه المؤاخذة!
فكيف أصبحت (العقلانية) تُهمة من وجهة نظر من ينتسب للدين؟
وكيف أمسى التحرر (سُبَّة) عند من ينتسب إلى الدعوة؟
وكذلك الأمر مع العقل والحرية فقد حاولت مراراً أن أفك شيفرة ضرورة
معاداته لمعتقدات الآخرين ومفاهيم العفاف لديهم، وقرأت لأساطين
الديموقراطية وفلاسفة الليبرالية فوجدتهم يطالبون باحترام رأي الأغلبية
والانصياع لرغبتها وينشطون لحفظ حقوق الأقلية وعدم جرح مشاعرها..
فكيف أصبحت مراعاة الآداب العامة تخلفاً عند من ينتسب للديموقراطية؟
وكيف أمسى احترام المقدسات نقيصة لدى من ينتسب إلى الليبرالية؟
لعلها سكرة المطامح النفسية والأهواء التسلطية هي ما تُفسر مثل هذه التناقضات..
ولعله التكاثر بالأتباع هو الذي ألهى العقول وغيّب الموضوعية عن كثير من هذه السلوكيات..
ربما، وربما اختلط الأمر على فهمي القاصر..
لا أريد الحكم ولا الجزم لأن النيات والمقاصد غيب لا يجوز لمثلي أن
يقتحم هيبته ففيه ظلمة التألي على الله تعالى وظلامة التعدي على خلقه ..
ولا أريد الانصياع لهوى النفس وميلها نحو سوء الظن وهو السلوك الذي نفرتُ بسببه من تصرفات الفريقين ..
ولكن السؤال يبقى مطروحاً بين يدي القارئ الكريم..
{يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ}
غرّني كرمُك.. فسامحني يا كريماً لا يُخيّب من رجاه..