treika.com :: تريكاوي محدش قده ::
المشاركات : 1402 العمر : 16 تاريخ التسجيل : 06/10/2008 التقييم : 5 نقاط : 9413 ::: :
| موضوع: يا بيوت السويس 2013-10-06, 10:50 am | |
| يا بيوت السويس بقلم - عمر طاهر «نحن لا نسيطر على السويس.. إننا نحاصرها ولكننا لا نستطيع الدخول إليها»، هكذا صرح المتحدث العسكرى الإسرائيلى صباح 25 أكتوبر 1973، كانت كلماته ترن فى أذنى بينما أدخل السويس للمرة الأولى فى حياتى الأسبوع الماضى، أنا المحب للسويس بالفطرة أرانى محبا كسولا أكتفى لسنوات طويلة بمطاردة وجه حبيبته فى كتب التاريخ وأغنيات الكابتن غزالى وقصائد الأبنودى وكتاب «خفايا حصار السويس» للأستاذ حسين العشى، لكل واحد فينا كتاب بالقرب من فراشه، كتاب ملهم يعود إليه عودة المحمول إلى شاحنه، هناك من اختاره شعرا أو رواية أو سيرة ذاتية، لكن «خفايا حصار السويس» كان اختيارى كلما فتحته هبت منه رائحة شتاء أكتوبر مختلطا بالبارود وعرق المجاهدين من أبناء المدينة وضيوفها، ولم يكن يرد فى بالى يومًا أن يكون أول من يستقبلنى فى السويس، بخلاف جدران الشوارع المزينة بصور الشهداء مكوة وجونيور وشهاب وكلابيظو وسليمان حجاب إلى قائمة شرف مسجد الهداية التى تضم أسماء شهداء معركة السويس الخالدة إبراهيم سليمان والسيد أبو هاشم وفايز حافظ وغيرهم، لم يرد فى بالى أن يكون أول من يستقبلنى هو مؤلف الكتاب، وكان الحظ كريما، إذ لم يكتف (العشى) باستقبالى، بل تفضل بأن يكون مرشدا، لن أقول سياحيا، ولكن وطنيا خلال اليوم ونصف الذى قضيتهما هناك.
من مدرجات تشجيع الزمالك إلى ميدان التحرير كان يصيبنى مسٌّ من السعادة عندما يلوح علَم السويس، حب السوايسه للزمالك يرتبط باستقبال النادى لعائلاتهم فى فترة التهجير، وحب الثورة للسوايسة سببه أن السويس كانت صانع ألعاب الثورة فى الوقت الذى كان ميدان التحرير فيه هو رأس الحربة، يعرف العامة أن صمود السويس من 25 يناير إلى 28 هو سر نجاح الثورة، بالإضافة إلى أنها كانت النقطة التى رفرفت منها روح أول شهيد، لكن أهل المدينة يعرفون أن الثورة بدأت من يوم 21 عندام خرج السوايسة ليهنئوا أهل تونس فحدثت الشرارة الأولى.
كنت أتلعثم فى أتيليه (الكابتن غزالى) وأنا أعبر له عن حبى عن للسويس، قطع على طريق الارتباك وحل الفزورة قائلا إنها مدينة شاركت مصر كلها فى بنائها، أى مصرى أيا كانت المحافظة التى ينتمى إليها سينزل هنا ليجد تفريعة من العائلة أو على الأقل رابطة لأبناء مدينته، اختزال مصر فى هذه المدينة جعلها محاطة بالمحبة. قلت لنفسى ربما هذا الكم من الغرباء هو الذى جعل اسمها (بلد الغريب) ولكننى تذكرت عندما كان القرامطة يقطعون طريق الحج إلى أن ظهر سيدى عبد الله الغريب القائد المغربى فحاربهم، وكانت نصيحته لجنوده وللحجاج (لا تأتونى فرادى ولكن تعالوا سواسية) فكانت السويس.
لم تكن المدينة تشبه تلك القابعة فى خيالى، وهذا من فرط سذاجتى، إذ كنت أعتقد من فرط الإخلاص لكتب التاريخ أن أجد آثار الحرب موجودة بعد 40 عاما، عرفت أننى ساذج عندما رأيت أثر طلبى على المرافقين (فين البيوت اللى اتضربت فى الحرب؟)، لكن رفقة السوايسة لا تعرف المستحيل وعثروا لى على سبيل تطييب الخاطر على دار سينما مهجورة محاطة بعروق الخشب لمنع انهيارها.
ذكرنى كرمهم باستقبال السوايسة للجنود العائدين من الجبهة عقب 5 يونيو، خرجت المدينة بأكملها لتأخذ الجنود بالأحضان لتخفف عنهم الألم، اقتسموا معهم الطعام على ندرته، ثم خرجت مجموعات من شباب المدينة تخترق الدقات الصعبة ومنطقة الشط ومداخل سيناء بحثًا عن الجنود التائهين أو الذين أسقطهم التعب والعطش، كان العدو على الضفة الأخرى يتابع الموقف بشماتة، وهو يرى المدنيين يحملون الجنود المنهكين، فما كان من أهل السويس إلا أنهم جميعا، خلعوا الملابس المدنية وارتدوا (الكاكى) ليقولوا للعدو إن المدينة كلها جنود، وعندما رفع العلم الإسرائيلى فوق الضفة الشرقية كانت الرسالة موجعة وكان لا بد من رد، اقترح البعض رفع العلم المصرى، ولكن لا معنى لرفعه فوق أرض مصرية، كان الرد بإدارة ماكينات المصانع المتوقفة ليرتفع فى سماء المدينة عاليا دخان المصانع.
كانت ساندويتشات السريديا وبيض السبيط تدور بيننا (مأكولات بحرية يعاملها السوايسة معاملة القاهريين للكبدة والسجق)، بينما أسرق نظرات باتجاه بيوت السويس التى تمنى جيل بالكامل أن يستشهد تحتها و(تعيشى إنتى)، فى كل بيت أسطورة تبدأ بشهيد أحسن استقبال دبابات العدو عند مداهمة المدينة عقب العبور وتمر برجل مسن سحب شباب المدينة باتجاه بئر مهجور ليحفروه تحت وطأة العطش الذى فرضه العدو على المدينة عند حصارها بقطع ترعة المياه العذبة نهاية بأطفال فى مرحلة التهجير استقلوا سيارات النقل المكشوفة مُهجّرين من المدينة ليستقبلوا سنوات حياتهم الأولى غرباء فى مدن أخرى قبل أن يعودوا بعد الحرب، فى كل بيت رجل كبير عندما كان طفلا عمده أهله بأن غطسوه فى «ماء الكنال» ليدبدب فوق مائها بقدميه دبدبة جندى مصرى على ضرب السمسمية.
خاصمنى النوم من فرط المحبة ولولا الحظر ما غادرت الشارع، من مقام سيدى الغريب لمعمل طرشى حدق لمطعم عبد الوارث لأتيليه الكابتن غزالى لمكتب الشيخ حافظ سلامة للمنزل المهجور الذى صُور عنده فيلم ابن حميدو لأطلال قسم الأربعين لاستراحة محمد على العاطفية التى داهمتها زوجته فيها إلى أطلال مبنى المحكمة الشرعية كنت أريد أن أقتلع قطعة من الأسفلت تصحبنى فى العودة، لكننى اكتفيت بأن أعود بعلَم السويس لأعلقه فى غرفتى.
فى طريق العودة كنت أضع العلم فوق شباك مقعد السيارة ليقينى من الشمس، وطول الطريق كنت أفكر فى العودة تماما كالأطفال المهجَّرين. |
|