عجبتُ من إبليسَ في تيهـهوضعفَ ما أظهرَ من نخوته

تاهَ علـى آدمَ فـي سجـدةٍوصـارَ قَـوّاداً لذريـتـه

وما كانت ذلة إبليس بنابعة عن تيهه على أن يسجد لآدم ، بل في رفضه للعبودية المتمثلة برفض التكليف واتباع الهوى ليوصم بالذل..
وفي سجدة ابن آدم لمولاه في لحظة إخبات ، أدرك كم كان إبليسيا فيما مضى إذ رفض التكليف إما استكبارا أو تكاسلا- في أحسن الأحوال- ، واتبع هواه ، ثم استغرب ما يعتريه من الذل على صعيد الفرد والجماعة...
سجد الجبين لخالقه ..فاعترت النفس عبودية فريدة ، عبودية تعزها لا تذلها ، فخجلت من ذاتها المثقفة التي لم تدرك ما أدركها ذلك الإعرابي بفطرته قبل قرون حينَ أنشد:

ومما زادني شرفـا وعـزاوكِدتُ بأخمصي أطأ الثريا

دخولي تحتَ قولِكَ يا عباديوإن صيرتَ أحمد لي نبيـا

فنعمت سجدة أورثت عبودية لله بثت في النفس إحساسا بالتحرر من أثقال الأرض ، لتعتريها في نورانية السجود الفكرة..
فكرة وصفها بحر العلمِ الذي لا ساحل له الإمام شمس الدين إبن قيم الجوزية بقوله:
(هي انزعاج القلبِ لروعةِ الإنتباه من رقدة الغافلين)
أجل يا ابن القيم..جزاكَ اللهُ عنا خيرا إذ وصفتَ فأجدت..ها هو الإنزعاج من روعة الإنتباه يهز أغصان الروح ليتساقط طلها دمعا سخينا يغسل ما تراكم على جدران القلبِ من رانِ الغفلة
غفلةً نجمت عن الإدمان على معافسة الدنيا واللهاث خلف جِيَفِ الرغباتِ كال.... ، أجل: كالكلب!
هل يسيئ الغافل هذا الوصف؟
أولم يصف الرحمان حالَة هذا عندما أوحى إلى نبيهِ قائلا:
(واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين * ولو شئنا لرفعناه بها ولكنّه أخلد إلى الأرض واتّبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذّبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلّهم يتفكّرون)...وها هي النفس تغسل دموعها أثناء السجود كل صفات الكلبية لتستعيد إنسانيتها في أبهى صورة...
سجدت النفس لبارئها فأنَست إلى الكائناتِ من حولها أحياءً وجمادات ، كما أنست بها الكائنات..تلك الكائنات التي لم تعترها قط ذلة لأنها جُبِلَت على الطاعة ، أو لم يقل الله -وقوله الحق- :
(وإن من شيئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم)؟
نِعمت سجدةً تجسد عبودية ، وحبذا عبودية لسيد الأكوان تورث تحررا من رِقِّ عبيد الأكوان ، بل وتجعل القلبُ ريانا بحريةٍ هيهات يدركها ويتلذذ بها كل دعاة الحرية...
سجدت النفس ، فاستذكرت لمَ كان عجائز القرية يلحون على الشيخ أن يقرأ آياتٍ بعينها في صلاة فجر كل جمعة ليتلذذون بسجود التلاوة ، وذات مرة قرأ شيخ المسجد سورةً أخرى فبدأوا يرددون ( وقالوا أإذا ضللننا) كأنما يصلحون إماماً أخطأ ، وما كان بمخطئ ، ولكنه توقهم لسجود التلاوة الذي اعتادوا ممارسته في صلاة كل فجر جمعة - مع تحفظي على أن تخصيص سورة بعينها في صلاةٍ بعينها في يومٍ بعينه دون دليل من السنة هو من البدع في الدين- ولكن ليس هذا ما نناقشه الآن...بل نناقش لذة السجود التي أدركتها تلك الفطر السليمة فأدمنتها...وأبت أن يقرأ الإمام إلا قوله -تعالى- :
( وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُون*... إلى أن يبلغ قوله تعالى : ( إنما يؤمن بآيتنا الذين غذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون) ليخروا سجدا بين يدي الرحمن بشكل جماعي متلذذين بسجدة فيها عبودية للهِ تحرر الأرواح من كافة أشكال الرق الدنيوي)