الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فإنّ الإسلام نوّه بالخلق الحسن، ودعا إلى تربيته وتنميته في نفوس المسلمين، وأكّده في غير ما موضع حيث جعل الله تعالى الأخلاق الفاضلة سبب تحصيل الجنّة الموعود بها ونيلها في قوله تعالى:
﴿وَسَارعُوا إلى مَغفرَة من ربّكم وَجنّة عَرضُها السّمَواتُ وَالأرضُ أُعدَّتْ للمُتقين الذينَ يُنفقُون في السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالكَاظمين الغَيْظَ وَالعَافينَ عَن النَّاس وَالله يُحبُّ المُحْسنينَ﴾ [آل عمران ١٣٣-١٣٤]، كما أوجب التخلق بالخلق الحسن وجعل له أثرا طيبا ينعكس على المعاملات بالإيجاب، كما قال تعالى: ﴿ادْفَعْ بالتي هيَ أََحْسَنُ، فَإذَا الذي بَيْنَكَ وَبيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأنّهُ وَليٌّ حَميمٌ﴾ [فصلت: ٣٤] كما اعتبر الشرع الخلق من أفضل الأعمال وجعل البرّ فيه، وأثنى على نبيه صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله تعالى:
﴿وَإنَّكَ لَعَلَى خُلُق عَظيم﴾(القلم ٤) وبعثه الله تعالى لإكمال هذه الأخلاق في قوله صلى الله عليه وسلم: «إنّما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق»(١- أخرجه أحمد: (٢/٣١٨). والبخاري في الأدب المفرد رقم (٢٧٣) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، والحديث صححه الألباني في «السلسة الصحيحة» رقم: (٤٥))، وبيّن صلى الله عليه و سلم أنّ : (البرّ حسن الخلق)(٢- أخرجه مسلم: (١٢/١١١) في البرّ والصلة: باب تفسير البرّ والإثم من حديث نوّاس بن سمعان رضي الله عنه)، وأنّ (من أحبّكم إليَّ، وأقربكم منّي مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا)(٣- أخرجه أحمد: (٤/١٩٣) من حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه، والحديث صحّحه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: (٣/١٤) وفي صحيح موارد الظمآن: (٢/٢٤٤))، وأنّ (أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا)(٤- أخرجه أبو داود: (٥/٦٠) في السنّة، باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه. والترمذي رقم: (٣/٤٦٦) في الرضاع: باب حقّ المرأة على زوجها، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث حسن صحيح انظر السلسلة الصحيحة للألباني رقم: (٢٨٤) صحيح الترمذي: (١/٥٩٣)).
هذا، ولمّا أثنى الله تعالى على نبيه بحسن الخلق وبعثه لإتمام مكارم الأخلاق، وكان النبي المثل الأعلى للدعاة في حياتهم الخاصّة والعامة؛ كان الذي ينبغي على الداعية التأسي به صلى الله عليه وسلم، وتجريد المتابعة له صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:
﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ في رَسُول الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب: ٢١]
واتخاذه صلى الله عليه وسلم قدوة وأسوة هو المطلوب على عموم وأعيان المسلمين، ليس لهم في ذلك وسع ولا خيرة، لقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لمُؤْمن وَلاَ لمُؤْمنَة إذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يكُونَ لَهُمُ الخيَرَةُ من أَمْرهم﴾ [الأحزاب ٣٢] فأمره في حق الدعاة
أوكد ، لأنّ رسالتهم الدعوة إلى هديه صلى الله عليه وسلم ومنهجه وطريقته، وبعد اقتفاء أثره، وترسم خطاه، والاستضاءة بالهدي النبوي، إذ هو سبيل النجاة من كل شرّ، والفوز بكلّ خير، وقد جعله الله تعالى المبلّغ والسراج والهادي، كما قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا النّبيُّ إنّا أَرِْسَلْنَاكَ شَاهداً وَمُبَشراً وَنَذيراً، وَدَاعياً إلَى الله بإذْنه وَسرَاجاً مُنيراً﴾ [الأحزاب: ٤٥-٤٦]
ولا يخفى أنّ الناس يترقبون أفعال الدعاة وسيرتهم، ويرون فيها تطبيقا عمليا حيّا لما يدعون إليه بما علموه وعملوا به بالبيان والقدوة، فإن لم يسلكوا هذا المنهج، وهو منهج الرشد والهداية والمستضاء به في ظلمات الجهل والغواية فقد ظلوا وأظلوا، قال تعالى:
﴿قُلْ إن كُنتُمْ تُحبُونَ اللهَ فَاتّبعُوني يُحْببكُمُ اللهُ وَيَغْفرْ لَكُم ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحيمٌ﴾ [آل عمران ٣١].
هذا، ومن أولى مهمّات الداعي إلى الله تعالى التأسي بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم في تزكية نفسه إلى درجة الانقياد والخضوع المطلق لله عزّ وجلّ في كلّ مطلوب ومأمور، بأداء العبادات المفروضة والمستحبة، سواء كانت بدنية أو مالية، وختم القرآن تلاوة و تدبرا وتأملا وتفكرا على الأقلّ مرّة كلّ شهر، والإكثار من الاستغفار وذكر الله ليكون جزءا من حياة الداعي ليتصف بالمسارعين بالخيرات وأهل التقوى والصلاح الموصوفين بقوله تعالى:
﴿الَّذينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبهمْ﴾ [آل عمران: ١٩١]
فضلا عن إتيان بقية الأعمال الصالحة التي تزكو النفس بها وتتهذب غرائزها وتصفو مداركها، كَبر الوالدين، وصلة الرّحم، وخدمة المستضعف والمسكين، وتفقد حاجات المعوز مع تواضع لهم، وغيرها من أنواع الطاعات، ذلك لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحنّث في الغار الليالي ذوات العدد(٥- جزء من حديث أخرجه البخاري: (١/٢٢) في بدء الوحي باب: 3، من حديث عائشة رضي الله عنها.)، يخلو بربّه ويناجيه، وكان بعد مبعثه أتقى الناس وأزكاهم نفسا وأحسنهم أخلاقا وأتقاهم سريرة وأعبدهم لله تعالى.
ثمّ يلي في الأولوية متابعة النبي صلى الله عليه وسلم في منهجه الأخلاقي والتأسي به فيه، وقد قدّمنا أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان على خلق عظيم بشهادة ربّ العالمين، حيث تجلّت فيه سائر نعوت الجمال والجلال، من الإخلاص والأمانة والبرّ والحكمة والحلم والرحمة والرفق والتواضع والصدق والإيثار والوفاء وغيرها، كما قال تعالى:
﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ منْ أَنفُسكُمْ عَزيزٌ عَلَيْه مَا عَنتُمْ حَريصٌ عَلَيْكُم بالمُؤْمنينَ رَؤُوفٌ رَحيمٌ﴾ [التوبة: ١٢٨] وقرئت: "من أنفَسكم"، بفتح الفاء، ويكون مراده من أفضلكم خلقا، وأشرفكم نسبا، وأكثركم طاعة لله تعالى.
ومن الأخلاق التي ينبغي على الداعي التحلي بها متابعة النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الحياء الذي له الأثر البالغ على مسار الدعوة إلى الله تعالى لما يؤدي هذا الخلق الرفيع إلى سلامة الطبع من الأمراض النفسية المفسدة ومن الأحقاد والضغائن المهلكة، فقد
(كان عليه الصلاة والسلام أشد حياء من العذراء في خدرها، وكان إذا كره شيئا عرف في وجهه)(٦- أخرجه البخاري: (١٠/٥١٣) في الأدب. باب من لم يواجه الناس بالعتاب. ومسلم: (١٥/٧٨) باب كثرة حيائه صلى الله عليه وسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه).
ومن أخلاق الداعية إلى الله الانضباط بالخلق الذي وصف الله تعالى جانبا منه بقوله:
﴿فَبمَا رَحْمَة منَ الله لنتَ لَهُمْ وَ لَوْ كُنتَ فَظّاً غَليظَ القَلْب لانفضوا منْ حَوْلكَ، فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفرْ لَهُمْ وَشَاورْهُمْ في الأَمْر فَإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكّلْ عَلَى الله إنّ اللهَ يُحبُّ المُتَوَكلينَ﴾
[آل عمران: ١٥٩] وفي الحديث:
(لم يكن النّبيّ صلى الله عليه وسلم فاحشا ولا متفحشا)، وكان يقول:
(إنّ من خياركم أحسنكم أخلاقا)(٧- أخرجه البخاري: (٦/٥٦٦) في المناقب، باب صفة النّبي صلى الله عليه وسلم. ومسلم: (١٥/٧٨) في الفضائل، باب كثرة حيائه صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه).
ومن الأخلاق اهتمام الداعي إلى الله بالهدي الظاهري شكلا وهيئة يتناسق الشكل على وجه الجلال والشرف، مع نظافة الثياب والبدن، فقد أخرج البخاري و مسلم من حديث أنس رضي الله عليه أنّه قال: (ما مسست حريرا ولا ديباجا ألين من كفِّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا شممت ريحا قط أو -عرفا قط- أطيب من ريح -أو عرف- النّبيّ صلى الله عليه وسلم)(٨- أخرجه البخاري: (٦/٥٦٦) في المناقب، باب صفة النّبيّ صلى الله عليه وسلم: ومسلم: (١٥/٨٥) في الفضائل، باب طيب ريحه صلى الله عليه وسلم ولين مسّه ، والترمذي
٤/٣٦٨) في البرّ و الصلة، باب ما جاء في خلق النبيّ صلى الله عليه وسلم وفي الشمائل رقم: (٣٢٨) من حديث أنس بن مالك رضي الله عليه).
ومن أصول الأخلاق إيثار الحلم وترك الغضب المذموم الذي يكون حمية أو انتصارا للنفس وغيرها، ممّا لا يكون في ذات الله، وقد وصف الله تعالى الكاظمين الغيظ بأحسن وصف في قوله عزّ وجلّ:
﴿الذينَ يُنفقُونَ في السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالكَاظمينَ الغَيْظَ وَالعَافينَ عَن النَّاس وَاللهُ يُحبُّ المُحْسنينَ﴾ [آل عمران: ١٣٤]، ذلك لأنّ من استطاع قهر نفسه وغلبتها كانت دعوة غيره أسهل وأيسر، قال عليه الصلاة والسلام:
(ليس الشديد بالصرعة، إنّما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)(٩- متّفق عليه، أخرجه البخاري: (١٠/٥١٨) في الأدب: باب الحذر من الغضب، ومسلم: (١٦/١٦٢) في البرّ والصلة، باب فضل من يملك نفسه عند الغضب من حديث أبي هريرة رضي الله عنه).
هذا كلّه فيما يمس حياته الخاصّة، أمّا حرمات الله تعالى فلا ينبغي أن يتهاون فيها أو يتساهل(١٠- وفي هذا المعنى بوّب البخاري (١٠/٥١٦): باب ما يجوز من الغضب والشدّة لأمر الله تعالى)، كما في حديث عائشة رضي الله عنها قالت:
(ما خيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلاّ أخذ أيسرهما، ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها)(١١- أخرجه البخاري: (١٠/٥٢٤) في الأدب، باب قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: "يسروا و لا تعسروا"، ومسلم: (١٥/٨٣ ) في الفضائل، باب مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام من حديث عائشة رضي الله عنها).
هذا، ومن تحلّى بمثل هذه الأخلاق السامية التي تمثل عماد الدعوة في جانبها العملي، المفسّر للجانب البياني أصلح الله به الناس، وعمّ خيره وانحسر شره.
ولا يخفى أنّ الدعوة الراشدة لا تكون مثمرة إلاّ إذا توافقت مع الهدي النبوي، ذلك لأنّ أسلوبه و منهجه في الدعوة أكمل أسلوب وأتمّ منهج، فقد قال تعالى:
﴿قُلْ هَذه سَبيلي أَدْعُو إلَى الله عَلَى بَصيرَة أَنَا وَ مَن اتَّبَعَني، وَسُبْحَانَ الله وَمَا أَنَا منَ المُشْركينَ﴾ [يوسف: ١٠٨].
والأسلوب النبوي في الدعوة كان مؤسسا على توحيد الله عزّ وجلّ، ومحاربة مظاهر الشرك وأشكال الخرافة، وأنماط البدع، لتمكين العقيدة السليمة والصحيحة من الانتشار على نحو ما فهمها السلف الصالح تحقيقا لعبودية الله وحده لا شريك له، لذلك كان موضوع العقيدة تعليما وتصحيحا وترسيخا من أولى الأولويات وأسمى المهمّات التي يجب على الداعي إعطاءها العناية الكافية التي تستحقها، كما ينبغي أن يكون أسلوب الدعوة في نهجه أن يرسم الطريق القويم لكلّ مخطئ أو منحرف على وجه الشمول لتعمّ فائدته ونفعه، وهو جلي في نصائحه صلى الله عليه وسلم وخطاباته ودعوته - كما في قوله صلى الله عليه وسلم:
(ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ؟! ...)(١٢- أخرجه البخاري: (٥/١٦٧) في العتق باب بيع الولاء وهبته، وفي المكاتب: باب ما يجوز من شروط المكاتب (٥/١٨٧)، ومسلم: (١٠/١٣٩) في العتق، باب الولاء لمن اعتق، وأبو داود: (٤/٢٤٥) في العتق باب بيع المكاتب إذا فسخت الكتابة، من حديث عائشة رضي الله عنها) ، وقوله: (ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء ؟!)(١٣- أخرجه البخاري: (٢/٢٣٣) في صفة الصلاة، باب رفع البصر إلى السماء في الصلاة، ومسلم: (٤/١٥٢) في الصلاة، باب النهي عن رفع البصر إلى السماء من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه)، وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا بلغه عن الرجل الشيء لم يقل: ما بال فلان يقول، ولكن يقول (ما بال أقوام يقولون كذا وكذا)(١٤- أخرجه أبو داود: (٥/١٤٣) في الأدب، باب في حسن العشرة، والحديث صحّحه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم: (٢٠٦٤))، إذ هذا الأسلوب أبعد عن الانفعال والأنفة والاعتزاز بالرأي عند عدم جدواه وأنّه إلى استصلاح الحال الأقرب.
ومن الأسلوب الدعوي الرفق الذي ينبغي أن يتحلى به الدعاة إلى الله تعالى وبجانب العنف والشدة والفظاظة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(إنّ الله يحب الرفق في الأمر كله)(١٥- أخرجه البخاري: (١٠/٤٤٩) في الأدب، باب الرفق في الأمر كلّه، ومسلم: (١٤/١٤٦) في السلام، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام، من حديث عائشة رضي الله عنها) وقال أيضا (إنّ الرّفق لا يكون في شيء إلاّ زانه، ولا ينزع من شيء إلاّ شانه)(١٦- أخرجه مسلم: (١٦/١٤٦) في البرّ والصلة، باب في فضل الرفق من حديث عائشة رضي الله عنها)، وفي الحديث: (إنّ الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على سواه)(١٧- أخرجه مسلم: (١٦/١٤٦) في الكتاب والباب أنفسهما)، فالرّفق في الأسلوب من أبرز خصائص دعوة الحقّ، قال تعالى:
﴿ادْعُ إلَى سَبيل رَبّكَ بالحكْمَة وَالمَوْعظَة الحَسَنَة وَجَادلْهُم بالتّي هيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل: ١٢٥].
وينبغي على الداعي إلى الله -فضلا عن الرفقّ- التعامل مع ما يمس الدّين منهجا وعقيدة بحزم وثبات، لأنّ التهاون واللّين يترتب عليه ضياع معالم الدّين وفساد الأخلاق، ويدلّ على ذلك حزمه صلى الله عليه وسلم في امتناعه على وفد ثقيف أن يدع لهم اللاّت لا يهدمها ثلاث سنين، وهدمها، كما أبى أن يعفيهم من الصلاة ومن الصدقة والجهاد(١٨- انظر: زاد المعاد لابن القيم: (٣/٥٩٥) وما بعدها).
هذا، والذي يطلب من الإمام أو الخطيب أن يكون على بصيرة في المجال الدعوي من علم دقيق بالشرع ومقاصده ومراميه مع الربط الوثيق بالله تعالى والصلة به، قال تعالى: ﴿قُلْ هَذه سَبيلي أَدْعُو إلَى الله عَلَى بَصيرَة أنَا وَ مَن اتَّبَعَني وَسُبْحَانَ الله وَمَا أنَا منَ المُشْركينَ﴾ [يوسف: ١٠٨]، فأهل البصيرة هم أولو الألباب، قال تعالى:
﴿الَّذينَ يَسْتَمعُونَ القَوْلَ فَيتَّبعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئكَ الَّذينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأولَئكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَاب﴾ [الزمر ١٨]، والآية تصف أهل اليقين والفطنة وسعة الإدراك والكياسة بأن يحصل لهم العلم بالاستماع، ويحصل لهم الهداية والتوفيق باتّباع أحسن القول، وهو الإسلام بلوازمه من أمر ونهي، ترغيبا في الخير الذي هو سبيل النجاة، وترهيبا من الشرّ الذي هو سبيل الهلاك والدمار والعذاب، وبحصول هذه المرتبة يوصل المتبصّر دعوته إلى الغير متيقنا بمراميها النبيلة التي مدارها إخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ظلمات الشرك إلى نور التوحيد والإيمان، تعلو به إلى مدارج الكمال المنشود.
وعليه، فإنّ البصيرة التي يكون عليها الداعية لا تطلق على العلم وحده ما لم يؤازره تصديق وعمل وتقوى، فيتجسد علمه بمعرفة الدين ومراتبه الثلاث من إحسان وإيمان وإسلام، ويتفاعل معها عملا ودعوة، متخلقا بأخلاق الدعاة، متبصرا بأحوال المدعوين وعوائدهم و طبائعهم و أعرافهم، منتهجا معهم الأسلوب النبوي في الدعوة إلى الله على ما تقدّم، مع الإحاطة بالمقاصد العليا للدعوة الإسلامية، وإذا كانت دعوته مؤسّسة على ضوء هدي الكاتب والسنة حاز قصب السبق، قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً ممَّن دَعَا إلَى الله وَعَملَ عَمَلاً صَالحاً وَقالَ إنَّني منَ المُسْلمينَ﴾ [فصلت: ٣٣]، ونال رتبة المستنيرين بنور الله، قال تعالى: ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فأحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشي به في النّاس كَمَن مَثَلُهُ في الظُلُمَات لَيْسَ بخَارج منْهَا﴾ [الأنعام: ١٢٢].
هذا، وعلى الداعي إلى الله التحلّي بالصبر، وهو من الأهمية بمكان في مسيرة الدعوة والدعاة خاصّة، إذ بالصبر و اليقين تنال الإمامة في الدين، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- : مستدلا بقوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا منْهُمْ أَئمَةً يَهْدُونَ بأَمْرنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بآيَاتنَا يُوقنُونَ﴾ [السجدة ٢٤]، وقد أخبر الله سبحانه وتعالى أنّ أهل الصبر هم أهل العزائم، كقوله تعالى: ﴿وَلمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إنَّ ذَلكَ لَمن عَزْم الأُمُور﴾ [الشورى: ٤٣]، وصبر الدعاة على البلاء الذي يصيبهم هو من عزائم الأمور، لأنّه صبر على استكبار الجاحدين وجفوة العصاة، وعنت المدعوّين وهو من علامات أهل الصلاح المتّقين، وهو يشمل الصبر على الطاعة وعلى المعصية وعلى الأقدار، ولقد واجه النبي صلى الله عليه وسلم كلّ أشكال الصدود والفجور، وكلّ ألوان الكنود والجحود، فصبر عليها وصابر ورابط حتّى أتّم الله دعوته، وانتشرت في الآفاق.
فالصبر -ذن- له أثره البالغ والحسن في نجاح مهمّة الداعي بتوجيه الناس إلى الخير والرشد والسؤدد، وعليه أن يتحمّل ما يواجهه من كنود الناس وصدودهم وما يحاك ضدّه في سبيل صدّه أو عرقلته ومنعه سبيل الله، أو ما ينشر حوله من إشاعات وأكاذيب واتهامات، ويكاد له من دسائس، قال تعالى: ﴿وَمَا لَنَا ألاَّ نَتَوَكّلَ عَلَى الله وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا، وَلنَصْبرَنّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا، وَعَلَى الله فلْيَتَوَكَّل المُتَوَكلُونَ﴾ [إبراهيم: ١٢].
وفي الأخير، فالواجب على الدعاة في مسيرتهم الدعوية أن يبتعدوا عن الجفوة والغلطة وسوء الأدب والمنقلب، وأن يتنزهوا عن الأغراض الدنيئة والاغترار بالدنيا، لأنّ الانشغال والتلهّي بها عن الآخرة أوّل طريق الضياع، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الذينَ آمنُوا لا تُلْهكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذكْر الله وَمَن يَفْعَلْ ذَلكَ فَأُولَئكَ هُمْ الخَاسرُونَ﴾ [المنافقون: ٩].
كما عليهم التنزه عن مقاصد الشخصية التي تصاحب الجفاة الغلاظ، التي تحمل دعوتهم في ثناياها من تجهيل وتجريح وتشهير وتعيير، بل وتكفير، فإنّ مرض حبّ الظهور والإهانة والتشفّي خلق ذميم ورذيلة لا تتوافق مع الخلق الرقيق الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم أشدّ حياء من العذراء في خدرها، والاصطباغ بتلك الرذيلة لا تصح صفة داعية، ولا يتشرف بها في سلوكه التطبيقي.
كما أنّ من وقائع حالنا أن يتصدى للدعوة أفراد بعلم ناقص أو بدون علم، بل دون تأهل ولا تأهب، وبلا زكاة للنفس وتربية ولا مجاهدة، فيدعون إلى الإسلام وهم بحاجة إلى الدعوة، ومثل هذه الأمراض من أصابته بشيء فهو ظلوم جهول يدعى إلى الحقّ ولا يدعو، ويستصلح ولا يصلح .
هذا، ونسأل الله تعالى التوفيق والسداد، ومن وفقّ إلى سلوك الدعوة النبوية فقها وتأسيسا فقد حاز وافرا من ميراث النبوة، نسأل الله لنا ولكم أن لا يحرمنا منه.